وُضعت أعمال كثيرة عن عبد الكبير الخطيبي (1938 -16 آذار/ مارس2009)، ربما تفوق عدد مؤلفاته نفسها. لا غرابة في ذلك، بالنظر إلى تعدد الحقول التي عمل فيها منقباً ومستكشفاً؛ من السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا إلى السيميائية، فكتابة الأدب روايةً ومسرحاً وسيرة، إلى جانب الدراسات النقدية. ويمكن إضافة شيء من التأريخ للأدب المغربي أيضاً إلى قائمة أعمال صاحب "الكُتّاب المغاربة من عهد الحماية إلى 1965".
لكن هناك كلمات مفتاحية تجمع هذه المؤلفات التي أقام فيها المفكر المغربي، جاعلاً منها مساحة مفتوحة على جهتين: الذات والعالم، طريق تستنطق الهوية وازدواجيتها بعناصرها المختلفة ولا سيما اللغة، وتبحث في الترجمة، وتدرس في ما بعد الكولنيالية.
وربما يكون أول ما يلمع في نصوص الخطيبي، وفي الكتّاب من جيله في المغرب، هو المخيال ذو الأصول العربية الإسلامية والذي ينقل بلغة فرنسية، لا يمكن أن نقرأ الخطيبي من دون أن نفكر في أنه "الغريب المحترف" على حد تعبيره في كتابه "الأجنبي في الأدب الفرنسي" (1987): "أنا نفسي تقريباً غريب محترف، بقدر ما أن الكتابة لا تشغلني الآن إلا كتمرين على الغيرية الكوزموبوليتية قادر على تجاوز الاختلاف".
وقوله هذا يستدعي بالضرورة صورته كمعلّم للاختلاف، حالة من الكتابة والتفكير يكون القارئان العربي والفرنسي قريبان وبعيدان بنفس المقدار عن النص، ربما هذا ما قصده الخطيبي بقوله: "جئت لأعلّمكم الاختلاف الذي لا رجوع منه" متحدثاً إلى الفرنسيين على الأرجح.
صاحب "كتاب الدم" حتى وهو يعيش لغة ثانية يظل موشوماً برموز الأولى؛ بالعلامات والتراث الشعبي والديني واللغة القرآنية، ويظل لهذه الأخيرة فضل "أبويّ" على كتابة الخطيبي. نستكشف معه ذلك بوضوح بالغ في سيرته "الذاكرة الموشومة" (1971)، إذ يقول مثلاً "القرآن بنى طفولتي"، ويتقاطع في مواضع كثيرة مع نصوص دينية ويكتب من خلالها نصه الجديد، مثلما فعل في سورة الإخلاص التي جعل منها مدخلاً للحديث عن الهوية.
في "الذاكرة الموشومة" وربما تكون أكثر مؤلفاته تداولاً بعد "الاسم العربي الجريح"، يتبين حجم ارتباط الذاكرة بالمكان (قريته "الجديدة" ومدينة "الصويرة" بشكل أساسي)، ومطاردة هذا الأخير لها مثل ظلها، فيعمل الخطيبي في ذاته وماضيه مثل منقب عن أثر، وكأنه يعثر على شعائر الطفولة فيحاول فك طلاسمها، ويعيد اكتشافات المراهقة ويتلمّس العبور إلى الرشد.
الذاكرة هنا كاميرا تزعج بضوئها القوي حياة الماضي، تلتقط صوراً فردية وسابقة تصبح جمعية ومجازاً لتمثلات أخرى في النص. نعرف أن عبد الكبير الراوي والمروي عنه، والمولود في عيد الأضحى وسمي "عبد الكبير" نسبة إلى ذلك العيد، يعيش في مكان واحد بزمنين، الزمن الذهني والزمن الاجتماعي، زمن المكان ثم زمن التأمل فيه، ومن ثم تطبيق لغة الوصف عليه: "هذه النظرة تستدعي نهوض مكان ما. من خلال لعبة التخفي، تجعل الذاكرةُ من مدينة ماضينا مجازاً لنوستالجيا بيضاء؛ الطرق تذهب وتقود إلى العقدة نفسها، الأحياء تمر بعضها من بعض في أحجية من الأشكال والأسطح والألوان".
المكان لن يكون نفسه في روايته "صيف في استوكهولم" والتي يقول الخطيبي مبرراً انتقاله من سرد يدور في كادر صحراوي مغربي إلى المدينة الشمالية الباردة: "أعرف استوكهولم منذ ثلاثين عاماً، ذهبت إليها عدة مرات. وعشت وقتاً طويلاً مع امرأة سويدية". إذن فمعرفة المكان مرتبطة بأمرين، زيارته والحياة مع امرأة تنتمي إلى المكان، إنها طريقة صاحب "حب ثنائي اللغة" المتوقعة، إذ يفسّر معرفته من خلال مساكنة الآخر، وهذا نهج متّع به الخطيبي عملية التأليف كما لو كانت ممارسة للحب.
يكتب الخطيبي سيرة أخرى أيضاً، ولكنها من نوع خاص جداً، يمكن القول إنها سيرة العقل وخياراته الأدبية والفكرية خصوصاً في مجال السوسيولوجيا، كان هذا في عمله "الكاتب وظلّه"، والذي صدرت ترجمته عن منشورات الاختلاف عام 2008، والذي يقول عنه "كتبت هذا المؤلف الصغير استجابة لصديق اقترح علي أن أفصح للقراء عن مساري الفكري، وافقت على ذلك بالرغم من التردد والمصاعب التي يفترضها جنس الصورة الذاتية".
في هذا الكتاب يناقش الخطيبي علاقته بالشعر وكتابته، العلاقة التي تعرّف عليها القراء من خلال مجموعته "المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية"، وفي واقع الأمر فإن القارئ يقف في حيرة كبيرة أمام هذا العمل، الذي يطرح نفسه بوصفه شعراً، إذ يمكن القول إن كتاب الخطيبي هذا هو شعر إذا أمكن القول عن شذرات نيتشه شعراً.
ربما يجد قارئ في تعدد الثنائيات أو الثنائيات المتعددة التربة الخصبة التي تعيش فيها كتابة الخطيبي موضوعاً ولغةً، الطريق لديه مفتوح دائماً بين زمانين، مكانين، لغتين، جنسين: "أنا على التوالي أنا، الآخر، ثم أنا من جديد. أنا هنا، خلف الزجاج لأمسك وأحدس وأفهم معاني كلمة واحدة، عبارة واحدة، تورية واحدة. كل المعاني: واضحة أم لا، منطقية، معقدة بشكل أو بآخر أو ضبابية، معانٍ مثقّبة بالأفكار. بالثرثرة والتفاهة وبالزيف الذي لا يطاق".