12 تموز/ يوليو 1962، فندق الوليد، طنجة
وصلنا، مساء أمس، قادِمَين من جبل طارق على متن العبّارة "Mons Calpe". كان أوّل شخص التقيناه هو فرانك ويسنر منشغلاً بغسل رجليه في نافورة أمام البناية القديمة لمركز البريد الإسباني، فقد كان بُعث إلى هنا ليتعلّم العربية. قضينا وقتاً جالسين في مقهى سنترال في السوق الداخلي نحتسي شراب "الفوندادور" حتى الرابعة صباحاً، نستعيد ذكرياتنا في "جامعة برنستون وبالبيرو".
لم يسمح لنا صغار الشحّاذين بأن ننعم بلحظة راحة بال. ألا يخلد هؤلاء المتسوّلون النموذجيون إلى النوم؟ هل لهم آباء يتساءلون في أي مكان يقبعون؟ في ما يبدو، السوق الداخلي هو الفضاء الذي ألهم تنيسي وليامز كتابة مسرحيته "الطريق الملكي". وبحسب "ويسنر"، فالأستاذ موجود في طنجة في هذا الوقت بالذات.
14 تموز/ يوليو
في ساحة القصبة: ركنا الدرّاجة النارية بالقرب من جدار عالٍ أبيض يغمره نبات الجيرانيوم وردي اللون. أشار طفل مغربي نحو باب أخضر: هنا يسكن إنكليزي!
طرقنا الباب، ففتحه شخص يرتدي بدلة أنيقة من "التويد" ودعانا إلى الدخول. دخلنا إلى فناء رصف بزلّيج فاسي أخضر وأحمر. أقواس مغربية تغطّي أحد الجوانب. كانت هناك شجرة تين قديمة وكثيرة العقد تظلّل المكان لكثافة أوراقها وامتداد فروعها. علمنا أنها الشجرة التي كتب تحتها صامويل بيبس "مذكّرات طنجة" سنة 1683، وهي الفترة التي كانت فيها المدينة ترزح تحت السيطرة البريطانية. كانت هناك حبّات تين خضراء وكبيرة بمثل حجم قبضة اليد تتدلّى من الأغصان، مهدّدة، فوق رؤوسنا.
فوق عمود روماني، يقبع تمثال نصفي لـ "سينيك" وقد قطّب حاجبيه. كان الماء يتسرّب بصوت مُتكتِّم من نافورة صغيرة الحجم. كان ببغاء بعرف أصفر معلّقاً داخل قفصه، ورأسه مائل نحو الأسفل، وهو يصرخ: "Patatas fritas! Patatas !fritas". في مكان ما، كان هناك صوت تنفطر له القلوب يؤدّي أغنية رثاء أندلسية قديمة. كان الديكور المتوسّطي لا يمتّ بصلة للحظة. بالإمكان أن يعود البيت إلى زمن روما أو اليونان القديمة، إلى مدينة لبدى العظمى أو الإسكندرية.
إنه بيت جيم ويللي، فنان مقيم في طنجة منذ فترة طويلة. قلنا له إننا جئنا للتدريس في المدرسة الأميركية ونرغب في الإقامة في القصبة. ما أن عبّرنا عن رغبتنا حتى تَقَدَّمَنا في درب طُليت جدرانه بالجير، وتوقّف أمام باب آخر به عين سحرية، باب منحوت ومزيّن بمسامير لبيت صغير بُني في جدار القصبة. كان البيت للإيجار ويمكننا أن نكتريه!
17 تموز/ يوليو
لم يقض ويسنر إلا أسبوعين في طنجة، ولكنه يبدو أنه يعرف كل السكّان. اصطحبنا معه لزيارة بول بولز في شقّته الواقعة خلف قنصلية الولايات المتّحدة. بقينا جالسين على الأرض بينما كان الكاتب يهيّئ لنا الشاي. كان بول يرتدي السترة وربطة العنق التقليديتين كما أساتذة الجامعة. تأتي إلى شمال أفريقيا في عز الصيف وتجد كل الناس يرتدون بدلات التويد!
أخبرته أنني أتيت للتدريس، ولكنني أريد أن أكتب رواية. هزّ بولز رأسه بتحفّظ: ليست المرة الأولى التي يسمع فيها مثل هذا الكلام، بل بالعكس. دخلت جين بولز وهي تعرج قليلاً. ينبعث منها جمال معذّب، وجريح. كانت تريد أن تعرف ما كان عليه هذان الأميركيان. ابتسامة ترحيبها تشبه جرحاً. ودّعتنا وهي تقول: تذكّر يا فْلُوفِي، إن تنيسي سيأتي لتناول العشاء!
22 تموز/ يوليو
رأيت تنيسي بالسان بيتش اليوم. لم يكن مثيراً للإعجاب وهو يرتدي تبّان السباحة وبطنه الكبير نوعاً ما، وبشرته رمادية اللون. كان يعطي الانطباع على أن حياته تحكمها العجلة، وأنه على عجلة من أمره في الذهاب إلى مكان ما، ولا يتوقّف أبداً لأخذ نفسه، ولا يتمهّل أبداً. يتطاير أطفال مغاربة حوله مثل أوراق ألوانها زاهية من شجرة تشيخ. أجساد الفقر: نحيفة، منحوتة، برونزية، وكلّ عضلاتها ناتئة. وأجسام الغنى: بيضاء، مترهّلة، مشوّهة... بشعة.
7 أيار/ مايو
طنجة، المدينة البيضاء الممسكة بتوازنها على القارة داكنة اللون، التي تبيّن أنها قارّة النور والضوء.
5 حزيران/ يونيو 1968
أُصيب روبير كنيدي إصابة بالغة برصاصة في كاليفورنيا. الأوغاد. بلد فاسد وسخيف.
مات روبير كنيدي. كنيدي، كينغ، كنيدي. على من سيأتي الدور؟ ليس عليهم، ليس على الذين يوجدون في الجانب المقابل... آل نيكسون، وآل ريغن: إنهم هم الذين يقتلوننا.
* الترجمة عن الإنكليزية عبد العزيز جدير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أقرب من نيويورك
أقام هوبكنز في طنجة بين عامَي 1962 و1979. وهناك، درّس سنةً واحدة في المدرسة الأميركية، ثم تفرّغ للكتابة. ألّف رواية "طنين ذباب طنجة"، و"يوميات طنجة" التي سجّل فيها يومياته وعلاقاته بالكتّاب الغربيين المقيمين في المدينة، هو الذي قال: "لو كنتُ أقطن في نيويورك ذاتها، لما سنحت لي فرصة التعرّف إلى كل هؤلاء الفنانين والكتّاب والسينمائيين، كما في طنجة".