***
عشرات الكتب والمقالات والدراسات النقدية، كُتبت حول البرتقال في شعره أو حول الحجارة.. إلخ. هل منها شيء يمكن أن يخرج عن اختصاصات وزارة الزراعة؟ ناهيك عن بقية الكتابات باهتماماتها، والتي هي من صلب عمل وزارة التنمية السياسية، إن وُجدت!
تخيّلوا المأساة..
كان درويش الشاعر الذي كُتبت عنه، في حياته، عشرات المؤلّفات النقدية، ولكنّ معظمها لا يُقدّم شيئاً، ولا يفتح أفقاً جديداً لشعره، ولا حتى لتفسره..
***
وفي الأثناء..
ينشغل كثير من النقّاد العرب بتوصيفه؛ بعضهم يضعُه في مرتبة المؤلّف المشارك، وغيرهم يضعه في مكانة المؤلّف العارف والزاهد في الإبداع، وآخرون يعدّونه مؤلّفاً على التأليف، يضيف إلى المادة المؤلّفة ألقها وضياءها..
ولكن، هذا ممكن الاعتبار في حال واحدة؛ حينما يواكب الناقد الكاتب وكتابته، ويؤشّر على الأشياء والمعاني والأسلوب، ويؤثّر في أداء الكاتب. وهذا لا يحدث، ولم يحدث، لا مع درويش، ولا مع سواه.
***
يجب القول إنني لست ناقداً، ولا أتمتّع بخصال تؤهّلني لأن أكون كذلك. إنني، وحسب، قارئ متمهّلٌ لدرويش. مهتمّ بما يُكتَب عنه، ولا أجد، في النقد وفي الدراسات حوله، شيئاً ممّا يثيره شعر درويش في رأسي، وفي فكري.
إنني اليوم، وقد مات درويش، أتساءل: هل هو خيالي المفرط وعاطفتي يهيّئان لي أن ثمّة خصالاً أساسية في شعره واضحة وبيّنة؛ ولم تُذكر في آلاف الصفحات التي كُتبت عنه.. أم هو الاستعجال ومحدودية الاطلاع على الإنجاز النقدي، الذي قدّمته بالضرورة أسماء لامعة، امتنّت على درويش أنها التفتت إليه، وقبِلَ هو الإمتنان كياسة وتأدّباً؟
ربما.
***
ومات محمود درويش..
ولأنه مات، وددت لو أعرف شيئاً عن تكرارات معيّنة في اللفظ والمعنى. علامات أساسية، تلح عليها قصيدة درويش، وهو بنفسه ولا ينسحبان منها، هي: أوّلاً، ميله الشديد، وبإلحاح يحمله من قصيدة إلى قصيدة، إلى مسحنة فلسطين. ثانياً، تأكيده على الجليل والناصرة هوية لمأساة الفلسطيني. ثالثاً، عدم اطمئنانه إلى قصيدته.
***
تكاد قصيدة درويش تقدّم فلسطين مسيحيةً، ويقدّم، هو نفسَه في قصيدته مسيحياً. وباعتقادي، فإن الشاعر الموغل في القراءة، لا يفعل ذلك مخاطبةً لغرب مسيحي معاصر؛ ولكن، لأن الفكرة المسيحية (لا الإسلامية التوفيقية) هي ما ينقض الفكرة اليهودية (الاحتلالية).
إنها معادلة إزاء معادلة.. الحق التاريخي مقابل الوعد التوراتي (التاريخي).
لم يتخلّ محمود درويش عن صورة المسيح في دمه، وبقي مصرّاً على النسب الذي يشدّه إليه، ويربط شعباً كاملاً بتضحيته. وبدرجة ما، ينشد إدانة تاريخية لقتلة التاريخ، ومغتصبي الحق التاريخي، ومزوّري الإرادة الإلهية. لذا أكّدد مراراً: أنا الناصري الجليلي...
ربّما لا يتمتّع محمود درويش بجرأة شاعر مبتدئ أو ناقد مقتنع؛ وقد يكون لي من الحق والشواهد ما يجعلني أجزم بذلك فعلاً. ولكنه ترك على الأرض، في قصائده، فضيلة التشكّك وعدم الاطمئنان إلى قصيدته. ذلك الهاجس الذي يعبّر عنه في كل قصيدة.
وربما يكون هذا المقطع من القصيدة المعروفة، التي كتبها في ساعة انتظار الموت، وحملت عنوان: "لا أعرف الشخص الغريب"، شاهداً واضحاً من عشرات الشواهد الواضحة في شعره، ومن مئات أخرى غير واضحة، إذ يقول:
"وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي
لكن أمراً ما إلهياً يؤجّلها
لأسباب عديدة
من بينها..
خطأ كبير في القصيدة".
***
لا أدري. ولكني ربما أتجنّى على الشاعر وأغمطه حقه. وربما أنسب إليه ما لا علاقة له به. وربما كنت أريد بكاءه، فلم أجد الطريقة والوسيلة. وربما هو حبي للعربية وللشاعر، الذي جسّر بين قديم لفظها ومبناها وجديدهما. ربما.
***
وعَوْداً على النقّاد الأفاضل.. لم يجدوا من معنى وتأويل في تكرار اسم "ريتا" في شعره، إلا أن درويش كان يحب فتاة يهودية (باعتبار الاسم، رغم أنه يتوزّع بين الثقافات والحضارات)؛ ولم يفطن أحد، من أصحاب الثقافات الموسوعية، إلى أن "ريتا" في الثقافة المسيحية، التي يستحضرها درويش، وينتصر بها، هي قدّيسة القضايا المستحيلة..
وهل هنالك من مستحيل معاصر مثل قضية فلسطين؟ أوَ لم يقولوا إنه شاعر الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني؟ فمن أحق به من مناجاة القدّيسة "ريتا"؟
سئمت!
***
وبعد..
أختم من القصيدة الأثيرة، باسمي وباسم الأحياء "أبناء عم الموت":
"قلت لنفسي
هل يرانا
أم يرى عدماً ويأسف للنهاية!؟"