سلطة المراقبة التي تحدّث عنها ميشيل فوكو، أو ما سماه بالـ بيوبوليتيك، والتي تهتم بالاستراتيجيات التي تتدخّل في تنظيم الحياة العضوية، هي تقنية السلطة في مجتمعات المراقبة. إنها غير صالحة في رأي الفيلسوف الألماني، الكوري الأصل، بيونغ شول هان لدراسة النظام النيوليبرالي الذي يقوم على استغلال نفسية الأفراد، لأنها لا تملك طريقاً إليها.
قد نقول بالنظر إلى هذا التطوّر أن النظام الرأسمالي نجح دائماً في تطوير أدوات سيطرته، في حين ما زالت القوى التي تقاومه تفكّر بعقلية القرن التاسع عشر.
اكتشفت النيوليبرالية، كنسخة متطورّة عن الرأسمالية، نفسية الأفراد بسبب تطوّر الرأسمالية إلى شكل الإنتاج اللامادي. فالجسد كقوّة إنتاج لم يعد مركزياً كما كان الحال عليه في مجتمع المراقبة البيو ـ سياسي؛ إذ لم تعد الرأسمالية تقوم على إنتاج الأشياء، بل انتقلت إلى إنتاج مواضيع غير شيئية؛ مثل المعلومات والبرامج. ولهذا فإن السيطرة على نفسية الأفراد والتأثير فيها وتشكيلها لخدمة الإنتاج هي المنهجية التي تعتمدها النيوليبرالية اليوم.
لقد عمد فوكو في الثمانينيات إلى تطوير ما سمّاه بتقنيات الذات. أي ما يفهم عبر "ممارسات واعية وإرادية، عبرها لا يحدّد الإنسان سلوكه فقط، بل يقوم بتغييره أيضاً بشكل يكسب حياته معنى إستيتقياً". إننا أمام إيتيقا للذات، تشتغل ضدّ تقنية السلطة والسيطرة.
ولقد عبّر فوكو نفسه عن هذا الانتقال من تقنيات السلطة إلى تقنيات الذات. لكن النظام النيوليبرالي سيقوم بالسيطرة على تقنيات الذات هذه، ويحوّلها إلى شكل من أشكال السيطرة.
إننا لا نتغيّر إلا لخدمة النظام القائم. فالذات المنتجة أضحت تستغلّ نفسها إرادياً وفي حماس شديد، كما يؤكّد الفيلسوف بيونغ شول هان، معتقدة أنها تقوم بذلك في انسجام مع حرّيتها.
في رأي شول هان، فإن النظام الليبرالي يدشّن عصر التعب؛ فما يجري استغلاله هو نفسية الأفراد، ولهذا فإن ما يميّز هذا العصر هو انتشار الأمراض النفسية. بل إن هذا النظام يطوّر مظاهر دينية، متطرّفة، تُعتبر شكلاً جديداً من التذويت؛ فالعمل غير النهائي على الذات، يتّخذ طابعاً دينياً. وعبر سياسته النفسية التي تقوم على تمجيد الإنجاز والإنتاج والنجاح، يدمّر هذا النظام الروح الإنسانية.
لم تبالغ "مجموعة الأزمة"، بقيادة عالم الاجتماع روبرت كورتس، حين أكّدت في منشورها "بيان ضدّ العمل" خطأ اليسار في تمجيده العمل، واعتبار الإنسان، في لغة ماركس كائناً يعمل، وأن المشكلة لا تكمن في العمل، ولكن في استغلاله.
يرى البيان أن العمل والرأسمال وجهان لعملة واحدة، إذ رغم تطوّر وسائل الإنتاج، فإن ذلك لم يقد إلى "إمبراطورية الحرية" الموعودة. أمّا في النظام النيوليبرالي، فقد تحوّل العمل، وما يرافقه من إدمان للاستهلاك إلى نقيض للحرية. "إننا نعيش في عالم أضحت فيه الأشياء حرّة والإنسان غير حر"، كما كتب أدورنو.
لقد حكم تمجيد العمل فلسفة الحداثة من هيغل، مروراً بماركس حتى هايدغر، الذي يعتبر "الخوف من الموت" في كتابه "الكينونة والزمان" دعوة إلى العمل، أمّا الطمأنينة واللعب فلن يكتشفهما إلا في كتاباته المتأخّرة، لربما بعدما شهد ما فعله العمل بالعالم في الحقبة النازية، التي عُرفت بشعارها الشهير "العمل يحرّر الإنسان".