يُعدُّ مطاع صفدي (1929-2016)، وقد مرت منذ يومين سنةٌ على رحيله، من أنشط المساهمين في نقل العلوم الإنسانية وفلسفات الغرب إلى اللسان العربي. فقد عمل لعقودٍ على تحديث الخطاب الفلسفي عبر "مركز الإنماء القومي" الذي أسّسه وأداره، بما حبَّره وترجمه، بانتظامٍ، من مؤلفات في مختلف قطاعات الإنسانيات وفلسفة الحداثة وما بعدها، فضلاً عن أسئلة الفكر العربي التنويري، ومن أجلاها إسهامُه الحاسم في نشر نتاج محمد أركون (1928-2010) النقدي.
كذلك لعبت مجلّتا "العرب والفكر العالمي"، وشقيقتُها "الفكر العربي المعاصر"، اللتان أشرف على إصدارهما، دوراً ريادياً في توليد المصطلح الفلسفي الحديث وإشاعته. إذ تركز عمله فيهما على ترجمة النصوص الفلسفية لفكر الحداثة وما بعدها التي بلورها من فلاسفة فرنسا ميشيل فوكو (1926-1984)، وجاك دريدا (1930-2004) وجيل دلوز (1925-1995) خصوصاً. فاعتنى بنقل أنساقهم النقدية إلى لغة الضاد، وهو ما وضعه أمام رهاناتٍ هذه بعض وجوهها.
لم تكن ترجمة كتب هؤلاء الفلاسفة معقدةً بسبب غياب المقابل العربي فحسب، بل بسبب مستوى التّجريد الذي وسم المفردات الفلسفيّة عندهم، مما حمله على إيجاد مقابل عربي دقيق، تقطع دلالته مع الصور الماديّة التي تقترنُ بأصله، وظلّت مع ذلك ترجماته المقترحة ملتصقة - في التلقي العربي لها - بمعانيها الأولى التي تشكلت في بادية الجزيرة العربية أو تطوّرت نسبياً خلال القرون الوسطى، وهي غالباً ما تتناقض مع المعنى المصطلحي الحديث الذي أسنِد لها في السّجل الغربي. فمفهوم "العقل" مثلاً، الذي شكَّل محور عمله، لا صلة له بالمعنى المُتداول عند القارئ العربي. وينطبق نفس هذا التحفظ على المفاهيم المحورية الأخرى مثل: التفكيك والحفر والاختلاف...
وتزداد هذه الصعوبة تعقيداً إذا لاحظنا أنَّ هذه المصطلحات التي تشكّل لُحمة فلسفات الحداثة وسداها، لم تصل إلى إجماع مفهوميّ حول مضمونها التحليلي ضمن المتن الفلسفي الفرنسي نفسه، فغالباً ما تندرج في نسق فيلسوفٍ بعينه، يضفي عليها دلالةً دقيقة، مثل مصطلح "الاختلاف" أو "الهوية" عند دلوز. فهي إذن مفاهيم خاصة، لا معنى تامَّ لها خارج النسق الفلسفي لأصحابها، ولا يفهمها حتى المتمكّنون من الفرنسية من غير ذوي الاختصاص.
وهذا ما يصدُق على مصطلحات العلوم الإنسانية التي تداولها صفدي وأشاعها بمثابرة مثل: الأسطرة، العقلنة، الأمركة، البنية، الشكل، ومئات غيرها تحمل جميعاً معاني فنية، مرتبطة بالحقول العلمية التي أنتجت فيها.
ويضاف إلى ذلك غيابُ التوافق بين المترجمين العرب على مدلول هذه المصطلحات، والمراد منها، إذ لم يرقَ العديد منها إلى مستوى الحدِّ الجامع-المانع، كما يقول الأقدمون، ويكفي أن نلحظ تعايش إحدى عشرة ترجمةً لمفهومٍ مركزي مثل: "الألسنية"، فكان صفدي يكافح لتكريس مقابلات موحَّدة، وإضفاء التجانس عليها عبر العمل مع الكتاب والمترجمين من مختلف الأقطار العربية.
كذلك لم تسعف الآليات التوليدية التي اعتمدها صفدي وحَيَّنها مجهوداته الضخمة، ولم يصاحب اختياراتِه أيُّ مجهود تنظيري، يحدّد الدلالات الدقيقة لكلّ آلية استحداثية وما يمكن أن تنشئه من شُحنٍ ثوانٍ. فمن المعروف مثلاً عن صاحب "نقد العقل الغربي" كثرة استخدام اللاحقة "-وي"، كما نجده في كلمات: شعبوي، قوموي، ماركسوي... ولا ندري هل لها بالضرورة، معنًى سلبي أم لا، لأنَّ كلمات أخرى استحدثها أو أشاعها مثل: قَوَوي، سلطوي أو بنيوي... لا تحمل شحنة التحقير هذه، وهو ما يجعل اللاحقة غامضةً ومعناها غير مطرد.
زد عليه الإفراط في استخدام صيغ المصادر الرباعية مثل: أمركة، بَنْيَنَة، شَكلنَة وحتى دَنْيَوة... وهي أداةٌ توليدية لم تحظ بعدُ بتنظير ألسني كافٍ لدى مجامع اللغة العربية، ولم يصحب استخدامَها جهدٌ تنسيقي لتوحيدها وتهذيبها، حتى تتناغم مع غيرها من أدوات التوليد الاشتقاقية.
ولقد نجم عن هذا التفاوت حالات من سوء التفاهم، أخذها على صفدي بعض قرائهِ بسبب إمعانه في الاستحداث، وتعقد اختياراته ونزوعها إلى النخبوية، حتى غدت مقالاته مجرّد استعراضٍ للمصطلحات دون أن تكون لها طاقة إحالية على مدلول واضحٍ، يتمسك به المتلقي الذي يجهل النصوص المنقول منها ولا يتوفر على مضامينها الذهنية.
لكن في المجمل، أثْرى مطاع صفدي الفكر العربي المعاصر بعبارات أنساق ما بعد الحداثة وأدواتها، وسعى إلى قراءة الواقع العربي من خلالها، مع أنَّ هذا الواقعَ لم يلج أصلاً عصر الحداثة، فترتب عن هذا التباعد انفصالٌ معرفيٌّ بين خطابٍ مُترجَمٍ، استجلِبَ من متنٍ مختلفٍ، وبين هوية لم تتمثل بعدُ كلَّ مكوّنات الحداثة، وجودياً ونظرياً، وهو ما سبَّب قطيعة أليمةً عاناها صفدي مع جمهوره، ومع ذلك، يبقى الخطاب الفلسفي الراهن أكثر من استفاد من عمله بفضل مئات المفردات التي أغنت مكنزه.