هل صحيح أن الروائي يمكن أن يلزم نفسه بالتحرّك ضمن مستوى شبه وحيد هو المحتمل حين يكتب الرواية؟ هذا ما يقوله مندلاو في "الزمن والرواية". تندرج العلاقة بين الرواية والواقع في أربعة مستويات: المستحيل وغير المحتمل والممكن والمحتمل. ولديه إضافة غريبة يقول فيها إن الرواية قد اختارت المستوى الرابع، واقتربت قليلا من المستوى الثالث، فيما استبعدت المستحيل وغير المحتمل.
يثبت تاريخ الكتابة الروائية أن الروائيين كسروا دائما هذا الترتيب القسري. سبق لجوناثان سويفت أن كتب "رحلات غاليفر"، حيث الأقزام الصغار، والعمالقة الخرافيون، وجعل زوسكيند غرنوي يصنع عطورا من أجساد الفتيات في "العطر"، وطار البشر في روايات أميركا اللاتينية. وثمة الكثير من المستحيل وغير الممكن في تلك الروايات.
وقد ظن كثير من القراء أن الأمر يدور في ساحة الأدب العجائبي، حين تتحدث رواية "خريف البطريرك" لـ ماركيز عن مآدب اللحم البشري، غير أن "بطريركا" مثل زعيم كوريا الشمالية الحالي قدَّم أحدَ جنرالاته طعاما للكلاب الجائعة، على مرأى من الناس. ومن الصعب على الخيال ـ من قبل ـ أن يكتب عملا يشبه فيه شعب ما شعبَ كوريا وهو ينتحب في الشوارع على رئيسه الميت. وثمة من يرى أن في رواية سويفت الكثير مما يصعب تصديقه، في حين أن الصدق الفني فيها يمنحها قيمة فكرية وأخلاقية كبيرة.
وفي الكثير من شهادات السجناء وقائع لا يمكن أن يجاريها الخيال الروائي بخصوص أشكال التعذيب التي مورست ضدهم. وتقدّم الحروب والمجازر سلاسل من الأحداث التي يمكن أن توضع في سياق المستحيل إذا ما كتبت في رواية ما. أما الحرب الدائرة في سورية فتضع سلوك الناس اليومي، وتفاصيل الحرب الدائرة في خانة الغرابة وغير الممكن. وفي الغالب فإننا نردد مندهشين من الوقائع التي تحدث أمامنا يوميا: "شيء لا يصدّق". وهكذا فإن المستحيل، أو غير المحتمل، أصبحا ممكنين.
والطريف أن الواقع يفتقر غالبا إلى حكمة العقل. فليس فيه أي إعدادات مسبقة، ومن الصعب عامة تقليده أو نسخه. فالوحدة المتوفرة في أي عالم واقعي هي نتيجة المصادفة، أو نتيجة جملة قوانين طبيعية اجتمعت في هذا المكان والزمان لتشكّل هذا العالم . واجتماعها ناجم عن مصادفات جمّة أيضاً.
أما العالم الروائي فهو من صنع الروائي "الذي يضع شخصياته، والأحداث التي تمر بها، في شبكة علاقات مدبرة، نتيجة لقراراته". بل إن المصادفة في الرواية هي مصادفة مسبقة. بل قلّما يُسمح للمصادفات بالتدخل في سير الأحداث. وهكذا فإنّ الروائي يجد نفسه أمام الواقع الذي يقدّم "مآدب" تحطيم البشر "المستحيلة" بحيث تبدو الرواية في حلّ من أي تعهدات بالكتابة عن المحتمل وحده، تجاه الواقع، وتجاه النظرية في الوقت ذاته.
ثمة من قال إنه لو كان بالوسع استعادة معركة بوردينو بين فرنسا وروسيا، لكان أفضل لها أن تحدث كما وصفها تولستوي. هذا يمنح متناً واسعاً للروائي كي يعيد خلق العالم كما تشاء المخيلة لا كما ترسم القواعد.