يظهر كتاب "حفلة لثائرة: فلسطينيات يكتبن الحياة" (2017) الصادر عن e-kutub، والذي أعدته وقدمته الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة (بغداد 1950)، احتفاءً بتجربة الأسيرات الفلسطينيات الممتدة على مدار سنوات الاحتلال الإسرائيلي الطويل.
لكن ميزة هذا الاحتفاء الذي يتجسّد على مدار صفحات الكتاب، أنه لم يكن احتفاءً ببطولة خارقة هنا، أو بانتصار عظيم هناك؛ ثمة قصدية واضحة لتسليط الضوء على التفاصيل الإنسانية الصغيرة، التي تنسج الحياة، ضيّقة الهوامش، داخل المعتقل، لحياة أسيرات فلسطينيات.
يتكوّن الكتاب من مجموعة من شهادات قصيرة، لأسيرات فلسطينيات خاضت كل واحدة منهن تجربة السجن، في فترات زمنية مختلفة. استعرضت كل واحدة منهن، ما يمكن أن يطلق عليه "الحدث المشاعريّ الذروة" أثناء تجربتها الاعتقالية.
عنوان العمل "حفلة لثائرة"، يحيل للوهلة الأولى إلى كون الكتاب احتفالاً من نوع خاص، بثائرة فلسطينية خطّت طريقها من الثورة مروراً بالمعتقل إلى الحرية، وهو ما نكتشفه أثناء قراءة شهادة الأسيرة نادية الخياط "طفلة لخمس وعشرين أماً"، قصة الطفلة التي ولدت لأم أسيرة داخل المعتقل، وكيف تحوّلت الأسيرات الخمس والعشرون إلى أمهات للطفلة المسماة "ثائرة". تنتهي الشهادة ببلوغ "ثائرة" سن العامين، وهو السن الذي يتوجب فيه مغادرة الطفلة حضن الأم/ أمهاتها، لتنتقل إلى عائلتها الأكبر خارج المعتقل.
وبدلاً من الاحتفال بمغادرة الطفلة المعتقل، تحوّل السجن إلى ما يشبه المأتم الكبير: "بكينا معها بحرقة وألم، وشاركنا الزوار من أهالينا البكاء لمرأى ثائرة وهي ترفض الخروج، وتعود إلى حضن أمها. وبعدها أصبح السجن ساكناً بلا حياة بعد أن انتزعوا روحه ثائرة".
في الشهادة المعنونة "حنين" لمي الغصين، تنخرط الطفلة حنين في يوميات الأسيرات السياسية، وتخوض معهن إضراباً طفولياً عن الطعام، وتضفي على أيام الاعتقال حلاوة كانت تنقص رتابة اليوميات القاهرة في السجن. تتساءل كاتبة الشهادة على لسان الطفلة، عن العالم الشاسع خارج المعتقل وكيف ستدرك هذه الطفلة أن هناك، خارج هذا المعتقل، عالماً يختلف تماماً. لكن حنين في مكانها هناك، داخل المعتقل، كوّنت وعيها المقاوم بطريقتها الخاصة: "تحملك رلى فتنشدين للجبهة، تذهبين لعطاف فتقرئين الفاتحة، تلاعبك أم محمود فتنشدين لأبي عمار، تناديك صاحبة المفاتيح (السجانة) فتصمتين".
في شهادة "فراق" للأسيرة المحررة إيمان غزاوي، تستعرض الأسيرة يومها الأخير بين أطفالها، وكيف تسللت من منزلها أثناء نوم أطفالها ملبية نداء الوطن، لينتهي بها المطاف محكوماً عليها بالسجن ثلاثة عشر عاماً، لتبدو عبارة "يا ليتني قبّلتهم قبل الانصراف" في هذه الشهادة، حارقة وتختصر في بلاغتها حجم الفداحة الإنسانية لمعاناة الأمهات الأسيرات.
تمتاز شهادات الأسيرات في "حفلة لثائرة" بالحمولة الإنسانية الفائقة، تتحرر من البطولة والشعار، وتنحاز إلى الهمس في ليالي السجون المعتمة بالقرارات العسكرية والأوامر الإدارية، همس يحن إلى الماضي وإلى مستقبل خارج أسوار المعتقل، بالإضافة إلى مقاربات مذهلة كشهادة آية بيوض كميل "كمن يضحك في مجلس عزاء"، و"لن تفهموا" لنادية خياط وغيرها.
تنتمي لغة الشهادات الواردة في الكتاب إلى نوع أدبي جديد، يجمع بين المسار الذاتي والإبداع أو ما بات يطلق عليه الكتابة الإبداعية المتحررة من الخيال، على حد توصيف فريال جبوري غزول في تقديمها للكتاب، إذ إن وظيفة الكتابة هنا، لا تهدف إلى تطوير واستعراض رهافة الكتابة الإبداعية ومهاراتها لدى الأسيرات، بل إلى تحطيم جدران الخوف الضخمة من استعادة تجربة الأَسر المهولة. إنها محاولة باختصار لرتق جراح الماضي بالكتابة.