مرّت ذكرى اكتشاف "حجر رشيد"، أو "روزيتا ستون" كما تنطق اسمه الآداب الغربية، الشهر الماضي، في سياق التساؤل عن إمكانية استرداده، واسترداد تحف مصرية أكثر شهرة، مثل تمثال الجميلة نفرتيتي النصفي الملوّن الذي اكتشفه مدير "المعهد الألماني في القاهرة" لودفيج بورشارت، خلال تنقيبه في مكتبة "تل العمارنة" في عام 1912، وقام بتهريبه إلى برلين بعد وضعه مموَّهاً بين عدد من تماثيل يُسمح للمنقب بأخذ نصفها، إن تكررت نسخها حسب الاتفاقيات المعقودة مع بعثات التنقيب.
بالطبع هذه تساؤلات مشروعة، في ضوء واقع أن هذه التحف الأثرية وأمثالها في بقية أرجاء الوطن العربي، تم الاستيلاء عليها سرقة ونهباً، ولم تتخذ طريقها إلى متاحف أوروبا أو مجموعاتها الخاصة طواعية أو بطرق مشروعة إلا في ما ندر. ولكن هناك قصصاً مهمّة أيضاً تتعلّق بسرقات معرفية ومساومات استعمارية، رافقت ما يقارب 150 عاماً من نهب الآثار المصرية، بدأت مع غزوة نابليون بين عامي 1798 و1801، وفكّ رموز الخط الهيروغليفي، وتواصلت مع السيطرة البريطانية التي انتهت عام 1952.
يقول أحد فصول القصة، قبل أن يكتشف الجندي الفرنسي بيير فرانسوا بوشار حجر رشيد في عام 1799، أثناء إقامة تحصينات عسكرية في مدينة رشيد، وقبل أن يعكف الفرنسي جان - فرانسوا شامبليون على دراسة نسخة تصوّر نقوشه بخطوطها الثلاثة؛ الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية، كانت المعتقدات الشائعة تقول إن معرفة الخط الهيروغليفي ظلّت ضائعة في الفترة الفاصلة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية، وظهور الكورسيكي نابليون، وبالتالي لم يبق من تاريخ مصر القديمة شيء سوى أخيولات خرافية وذكريات شعبية، إلى أن جاء شامبليون وفك رموز الهيروغليفية.
وجرفت هذه المعتقدات الشائعة علماء "المصريات" الغربيين، فأهملوا المادة المحفوظة في المصادر العربية التي تقول إن معرفة الخط الهيروغليفي لم تكن ضائعة إلا بالنسبة لأوروبا، أما في الثقافة العربية، فلم تكن في مصر القديمة معروفة فقط، بل وكانت لدى العرب معرفة بأبجديتها، أي الهيروغليفية التي تعني "النقش المقدس" حسب التعبير اليوناني.
هذه الحقيقة لم تعرف إلا حديثاً، وبفضل دراسات وجهود العالم المصري المقيم في لندن عكاشة الدالي، الذي جعل مشروع حياته دراسة المساهمة العربية في معرفة مصر القديمة. وتضمن كتابه الصادر بالإنكليزية "علم المصريات: الألفية المفقودة.. مصر القديمة في الكتابات العربية القروسطية" (2005)، الكشف عن مخطوطة للعربي "أحمد ابن وحشية" أو "ابن وحشية النبطي" عنوانها "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام"، مكتوبة في أوائل القرن العاشر الميلادي، ومحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس.
وتظهر هذه المخطوطة بجلاء أن ابن وحشية فك رموز هذه الصور المقدسة، وعرف أنها حروف أبجدية ذات قيم صوتية، ووضع ما يقابلها من حروف عربية قبل 800 عام من وصول الأوروبيين إلى هذه المعرفة، وطرحهم لمعتقداتهم الخرافية عن هذا الخط.
اللافت للنظر أن المستشرق جورج هامر نشر مخطوطة ابن وحشية هذه، مع ترجمة لها إلى الإنكليزية في عام 1806، واتخذها المستشرق الفرنسي دي ساسي موضوعاً لدراسة نشرها في باريس عام 1810، أي قبل أن يتحرك شامبليون ويبدأ بقراءة نقوش حجر رشيد، ويصل إلى إعلان نجاحه في عام 1822. فهل كان لهذه المخطوطة دور في قيادة خطى شامبليون؟
هناك إشارات إلى معرفة هذا الفرنسي بالعربية، ولكن الغربيين يطمسون هذه الإشارات، ويبالغون في التنكّر حتى لأحد أكثر العناصر أهمية في ما يسمى "عصر النهضة" الأوروبية، عنصر احتكاك تجّارهم ورحالتهم بالوطن العربي، والتبادل التجاري، والتعامي عن خريطة بطليموس التي لم تضع العالم الشرقي في منتصف ومركز العالم بلا سبب.
ما كشف عنه كتاب الدالي هو أن العرب ساهموا مساهمة بالغة الأهمية في حقل "المصريات"، وأن منجزاتهم في هذا المجال تجاهلتها ظلماً الدراسات الراهنة، والأوروبية بخاصة. والمقولة الأشهر في هذا السياق، والتي ترددت أصداؤها في وسائط الإعلام، هي قوله إن عدداً من العلماء العرب استطاعوا تفسير الخط الهيروغليفي تفسيراً صحيحاً قبل 800 عام من يومنا هذا.
ويقول فصلٌ ثان من القصة إن المحتلّين الفرنسيين تمسكوا بملكية حجر رشيد، على اعتبار أنه من ممتلكاتهم، بينما أصرّ المحتلون الإنكليز على أنه غنيمة حرب يجب تسليمها لهم. حدث هذا حين فرضت القوات البريطانية بقيادة الجنرال هتشنسن الاستسلام على الجنرال الفرنسي جاك مينو، التي حاصرته في الإسكندرية عام 1801، وتم توقيع اتفاقية ورد في مادتها السادسة عشرة وجوب أن يسلّم الفرنسيون، قبل أن يتم ترحيلهم مهزومين، ما لدى علمائهم من مجموعات خاصة جمعوها في مصر، بما في ذلك حجر رشيد.
وفي التراشق الكلامي بين الطرفين، زعم "مينو" أن الحجر ملك شخصي له، وعرض أن يتنازل عن مجموعات العلماء من الحبوب والمعادن، والطيور والفراشات والزواحف المحنّطة، ولكن العلماء أعلنوا أنهم يفضلون أن يؤخذوا مع مجموعاتهم إلى بريطانيا على أن يسلّموها. وسمح لهم "مينو" أن يذهبوا مع مجموعاتهم، كما يتضح من رسالته إلى "هتشنسن"، التي جاء فيها: "أحيطكم علماً بأن نفراً من أصحاب المجموعات، يريدون أن يتبعوا ما جمعوا.. إلى حيث تريدون شحن أقفاصها، ولا أدري، هل يرغبون أن يُحنطوا هم أنفسهم لهذا الغرض، ولكنني أؤكد لك أنني لن أمنعهم إن راقتهم الفكرة...".
وسمح هتشنسن للعلماء بالاحتفاظ بمجموعاتهم، إلا أنه أصر على أخذ حجر رشيد، وهذا ما حدث. وأخذه البريطانيون غنيمة إلى المتحف البريطاني، حيث يمكن أن يشاهده من يزور المتحف منتصباً في قفص زجاجي بجوار عدد من تماثيل مصرية قديمة، ولكن لن يتردد على سمعه ما قاله محمد رشدي المصري في أواخر القرن التاسع عشر، عن كتاب ابن وحشية، ونقله عنه "محمد الورتتاني" (1914): "لقد سبق العربُ علماءَ أوروبا في حل رموز الخطوط القديمة، وترجمة كتبها إلى اللغة العربية، ولا أخال أن أوروبا توصلت إلى حل رموز الآثار، والوقوف على علوم من سبق من الأمم إلا بوساطة كتب العرب، وترجمتها إلى لغتهم. ضمن ذلك ما رأيته بعيني وطالعت فيه بنفسي، وهو كتاب (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)، لأحمد ابن وحشية النبطي المتوفى سنة 322 هجرية، فإن مؤلفه جمع فيه صور الخطوط القديمة التي تداولتها الأمم الماضية، وترجمها جميعها إلى اللغة العربية".