يُعرّف فرانك أوكونور في كتابه "الصوت المنفرد" القصة القصيرة بأنها فن الرجل الصغير. إذ هي الفن الذي يحكي عن أولئك الهامشيين الذين يمكن أن يقال إنهم بلا بطولة، وإنهم فقراء، ومسحوقون، ولا آمال لديهم؛ هم الموظفون العموميون عند غوغول، والخدم عند تورغينيف، والعاهرات عند موباسان، والريفيون عند شيروود أندرسون؟ وهم حشود الفلاحين الفقراء وعمال التراحيل والعمال العاطلون الباحثون عن الرغيف والأمان عند يوسف إدريس، وهم أولئك المهزومون المحاصرون المعتدى عليهم في كل ركن وزاوية من مدينة دمشق لدى زكريا تامر. ولهذا يقول أوكونور إن القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، وإنما لها بدلاً من ذلك "مجموعة من الناس المغمورين" من الشخصيات التي تهيم على حواف المجتمع.
وقد يكون التعريف الأخير هو الفارق الجوهري بين شخصيات القصة القصيرة، وبين شخصيات الروايات. فقد اختارت الرواية العربية، على سبيل المثال، طريقاً مغايرة لطريق القصة القصيرة التي انشغلت بالمغمور الخائف، بحيث أن البطل الروائي العربي استطاع أن يخرج من كونه مغموراً أو "صغيراً" كي يكون مناضلاً أو داعية.
وقدّمت الرواية نماذج لأبطال روائيين يحملون على أكتافهم مشروعات كبرى، وهي المشروعات التي صيغت في صورة قضايا كبرى يناضل البطل الروائي من أجل تحقيقها في المجتمع الذي يعيش فيه، من قضية العدالة، كما في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، إلى الاشتراكية، كما في "الثلج يأتي من النافذة" لحنا مينة، أو البطل في صراعه القومي، كما في "الرغيف" لتوفيق يوسف عواد، أو إلى النضال ضد المحتل الأجنبي، كما في "اللاز" للطاهر وطار، وقد ارتبط هذا في الغالب بالتفاؤل والإيمان بالمستقبل والدعوة للتغيير والنهوض الوطني والقومي
وفي سياق الحماسة العربية للتغيير، انساق عدد من كتّاب القصة القصيرة نحو البطل الروائي، وسعوا لإخراج شخصياتهم من عالم المغمورين، إلى عالم المناضلين. ويمكن أن تكون قصص سعيد حورانية شاهداً على هذا التحوّل الذي أخذ شكل التوثيق أيضاً.
في ذلك الزمن كان التفاؤل يرتبط بالحركة العامة المتجهة للتغيير والبناء في المجتمع العربي من حيث الظاهر، ولم تكن الهزائم قد بدأت بعد، ومن المحتمل أن تكون القصة القصيرة قد بدأت تنحسر عن عالم الكتابة لهذا السبب تقريباً، حيث غلبت روح البطل الروائي المناضل المتفائل، حتى لو كان مضطهداً أو مقموعاً، على وجود الهامشي المهزوم في القصة. ومن الممكن أن يكون هذا وراء انحسار الحماسة لنشر القصص القصيرة، أو قراءتها في المكتبة العربية أيضاً.
غير أن الزمن تغيّر في العقد الأول من قرننا، وقد اندفعت قوى غاشمة في الداخل العربي وفي خارجه لطمس "الأمل"، وإعادة الشخصية إلى مناطق المغمورين، وأُقصي احتمال البطل المشارك، ودمّرت الحياة العامة، وتمت تصفية مشاريع التفاؤل، وبات بوسع "الوطني" أن يستقبل الأجنبي على أنه المنقذ.
ماذا سيحدث لأبطال القصة والرواية العرب بعد اليوم؟ فإذا كان بوسع القصة القصيرة أن تعود إلى مجموعة الناس المغمورين، وهو أمر قد يعني نهوض القصة القصيرة في الزمن القادم، فأين يمكن للرواية أن تجد أبطالها؟