ما عدتُ أعرف لمن يمكن أن أتوجّه للكلام عن السلام، فالوضع مربك في هذا الشأن، إذ في كل محطة فضائية تواجهني أخبار القتل والقصف والمعارك وسفك الدماء، وهي ظواهر لا تعنى بالسلام، وفي كل وسيلة من وسائل التواصل لا أرى ولا أقرأ غير الاشتباكات والمعارك بين "أصدقاء" الصفحات.
وتصبح المسألة أكثر خطورة حين أخرج إلى الشارع، فهناك يتجوّل المسلحون الغاضبون الذين يمكن لأحدهم أن يضع فوهة البندقية في جنبي إذا ما أعجبتُ بلحيته، أو يقف باعة الخضار والفواكه الذين يمكن لأحدهم أن يطردني من أمام عربته إذا ساومته على سعر الموز.
وعلى الناصية الفكرية، أحزاب وشخصيات تقول إنها تؤيد السلام وتنبذ العنف. فإذا ما شجبتَ "هذا" العنف، غضبوا ، ذلك لأن عليك أن تشجب "ذلك" العنف وحده. العنف الذي يقوم به فلان لا علان. فالعنف ألوان وأنواع، ومنه لون أو نوع أصيل ومقبول ولا يجوز خلطه بتوابل العنف الأخرى.
بل إن كتاباً عنوانه "العنف" صادر بالعربية يقول: "لمَ لمْ تستطع القوة كعنف مشروع جعل الناس يعتبرون ويمتنعون عن القيام بالعنف اللامشروع؟". فتحت هذه العبارة يستطيع البشر أن يرتكبوا أفظع الجرائم، وهم يفعلون ذلك في الحقيقة "الآن هنا" في هذه المنطقة التعيسة. وتحت هذه العبارة ومثيلاتها يمكن أن يصبح التسامح نفسه انتقائياً، إذ يمكن ابتكار ما نسميه التسامح المشروع والتسامح اللامشروع.
وقلما تجد من يقول إن لدى البشر نزوعاً طبيعياً نحو السلام، أو ميلاً أصيلاً نحو الحب. فالسلام والحب والرحمة والشفقة ليست من الدوافع العميقة والأصيلة لدى البشر. وإذا كنت أعرف أن الروائيين كتبوا روايات تقول إن الرحمة أو الحب أو الشفقة من طبيعة البشر. فها نحن نرى بعض الروائيين يصفقون لمشعلي الحروب. فتقول "روائية" أردنية: "لا يثير تعاطفي صراخ المتألمين على "ضحايا القصف السوري" للغوطة مثلما لا تثير تعاطفي صور هؤلاء "الضحايا"".
وعلى هذا يصبح من "الطبيعي" أن يسخر منك الآخرون إذا دعوت إلى نزعة "غير طبيعية" مثل السلام أيضاً، ما دام بوسع الكاتب أن يضع الضحايا بين قوسين.
السلام يعني أن تقترب من التسامح، والتسامح يعني أن تعد نفسك بأن لا ـ ولن ـ تفكر في الانتقام والثأر البتة، لا اليوم، ولا في أي يوم من الأيام القادمة. وهو ما لا يريده أحد، فأصوات الانتقام، ومديح المذابح هي اللغة التي تطفو على سطح وعينا اليوم.
وفي النهاية فكّرت أن أكتب عن مؤتمرات "السلام". ولكني رأيت جولات العنف المرعبة التي تعقب تلك المؤتمرات، حين يزعم من يملكون القنابل أنهم يريدون تأديب أطفال أشجار المشمش بدعوى أنهم يزعزعون السلام المحلي والعالمي.
يصبح "السلام" الكلمة الأكثر رخاوة في تفكيرنا، لا لأننا نرفضه، بل لأن ثمة من يشعل النار الأخرى التي تسمى عادة في اللغة "نار الحقد" وهي النار التي تغذيها عجينة رغبات تؤله الحرب وأدوات الحرب ومنطق الحرب ولغة الحرب.