لا تتوقّف الدعوات إلى ضرورة إعادة النظر في التاريخ العربي والكتابات حوله ضمن مسارين إثنين غالباً؛ مراجعة اللحظة الراهنة وتحليل أسباب التراجع سياسياً واقتصاديا وثقافياً، ومقاربة العلاقة مع الآخر الذي لا يمكن عزله عن أي قراءة تاريخية.
"التاريخ العربي ومناهج الفكر الحديث" عنوان المؤتمر الدولي الثاني والعشرين الذي يُختتم اليوم في "جامعة فيلادلفيا" الأردنية، بمشاركة أكثر من سبع وثلاثين ورقة بحثية تصدر في مجلّدين محكمين يوزّعان العام المقبل.
ينطلق المتحدثون من "الخلدونية التي مثّلت إنجازاً عقلانياً وواقعياً على صعيد التاريخ العربي، لكن هذا الإنجاز لم يبن عليه ولم يستؤنف، على صعيد مفاهيمها وأحكامها ورؤيتها للتاريخ الذي لم يعد مجرد سرد للوقائع والأحداث وسير الأفراد، بل اتسع ليشمل منظومات معرفية مثل التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي"، بحسب المنظّمين.
تنوّعت المشاركات في مقارباتها لمناهج المستشرقين، والمادية التاريخية، والتحليل النفسي، والعقلانية النقدية، والتاريخانية، التاريخ وصدام الحضارات، والنقد النسوي، وتاريخ الأفكار، ومناهج الحداثة وما بعد الحداثة والصراع العربي الصهيوني، في مراجعات لجهود ومناهج المؤرخين العرب في العصر الحديث.
في ورقتها، تشير الباحثة هند سعدوني من "المدرسة العليا للأساتذة" في الجزائر، إلى أن التاريخ العربي توزّعت كتاباته بين العلمية العقلانية والأدبية التخييلية، ما يتطلّب إعادة مراجعة جميع محطاته؛ المرتبكة والمحسومة منذ زمن، بمنهجية نقدية تنطوي على مقاربة جريئة، لا تدعو إلى أن يفقد التاريخ سلطته، بل إلى أن يستعيدها عن طريق العقل الناقد والمفسّر والمحلّل للوثيقة بكلّ موضوعية.
وحتى لا يبقى التاريخ مجرّد ماضٍ، تدعو إلى شرط "عدم اعتبار الوثيقة كياناً منتهى منه، ما دامت تبعاته متواصلة مستمرة في الزمن والتأثير معاً، ليتحوّل إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، يرافق العقل بعد أن استرجع وظيفته من جديد، إنه "العقل المشتغل" في مقابل "العقل المستقيل"، أو اللامعقول العقلي في ثقافتنا كما تناوله الجابري".
الباحث زهير توفيق من "جامعة فيلادلفيا" في الأردن، يقف عند مفهوم التاريخانية لدى عبد الله العروي، باعتباره مبدأ تفسيرياً وتحليلياً لفهم الواقع وتجاوزه؛ بتجاوز محركاته التراثية والانطلاق من أن الإنسان صانع التاريخ ونتاجه ومحدّد اتجاهاته، بما أتيح له من إمكانات ضمن شروط تاريخية محددة.
ويرى أن صاحب "مفهوم الأيديولوجيا" اعتمد في قراءاته على عدٍة أسس؛ حتمية مراحل التقدّم التاريخي وتسلسلها، والاتجاه الخطي التقدّمي في مسار التاريخ، وضرورة استعارة الحداثة والتحديث من مصادره (الغرب)، ودور المثقف الإيجابي في النهضة والتغيير، متسائلاً هل حققت التاريخانية وعودها في قراءة الواقع وتفكيك وعيه، أم أنها انتهت بمحدوديتها إلى تاريخ فلسفة التاريخ؟
ولتطبيق التاريخانية على الفكر العربي الحديث، يخلص توفيق إلى أن الانخراط في مشروع التغيير أو استئناف النهضة العربية واللحاق بالغرب، يتطلب تبني منطق الحداثة الغربية ومكتسبات عصر التنوير، بعيداً عن التركيبات المفتعلة مع التراث، الذي استنفد الطاقة الكامنة فيه، وقد آن الأوان لتجاوزه.
يذهب الباحث سعيد البوسكلاوي من "جامعة محمّد الأوّل" في المغرب، إلى تقديم جرد أوّلي لمصنّفات المتكلّمين في الردّ على الفلاسفة وردود الفلاسفة عليهم، والردود على الردود؛ في محاولة لتأريخ للفلسفة العربية الإسلاميّة من خلال تتبّع تاريخ بعض أدلّة حدوث العالم، كما وضعها اليونانيون، المتأخّرون منهم بالخصوص، وبعض صيغ استثمارها من قبل المتكلّمين، أوائلهم ومتأخّريهم.
ويستعرض في ورقته مسألة قدم العالم أو حدوثه في التاريخ الفلسفيّ بشكل عامّ، والعربيّ الإسلاميّ بشكل خاصّ وموقع أدلة يحيى النحوي فيه، ووضع فهرسة لردود المتكلّمين على الفلاسفة والردود على الردود، و تاريخ بعض أدلّة الحدوث في هذا التقليد من الردود والردود على الردود، انطلاقاً من فلاسفة اليونان ومتكلّميهم، وخاصّة في العصور المتأخّرة، مروراً بالمتكلّمين والفلاسفة في العصور الإسلاميّة الأولى، وصولاً إلى المتأخّرين منهم، فلاسفة وأشاعرة على حدّ سواء.
أما الباحث الجزائري نسيم بهلول من "جامعة علي لونيسي" في الجزائر، فقدّم مقاربة نقدية في المنهج التاريخي عند ابن خلدون منطلقاً من مبالغة صاحب "المقدّمة" في الدعوة إلى الاعتماد على قانون المطابقة بين الروايات التاريخية، والثابت من التاريخ، والواقع الطبيعي، حيث دعا إلى استخدامه كقانون أساسي، بينما هو لا يصلح لتحقيق كثير من الأخبار التاريخية، التي تدخل في إطار الإمكان العقلي والواقعي، والمتعلقة بالسلوكيات والتصرفات العادية، وبالحكم والأمثال، والأوامر والنواهي، فهذا النوع من الحوادث التاريخية لا يمكن تحقيقه – في الغالب- إلا عن طريق نقد الأسانيد لا المتون.
ينتقل الباحث سعيد بدوي من "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، إلى التاريخ المعاصر في ورقته "التجديد في الكتابة التاريخية الفلسطيني: من السياسي إلى الاجتماعي"، إلى تفكيك مقولة أن هناك انزياحاً في الكتابة السياسية والأيديولوجية حول القضية الفلسطينية وأحداثها، إلى الكتابة عن فلسطين والفلسطينيين من خلال التاريخ الاجتماعي.
تتناول الورقة نماذج من الكتابات التاريخية في فترة الاستعمار البريطاني والكتابات التاريخية بعد النكبة إلى توقيع اتفاقية أوسلو، وتُعتبر الفترة من أواخر الثمانينيات بداية ظهور نوع جديد من الكتابة التاريخية عن فلسطين مرتبطة بعوامل خارجية وعوامل فلسطينية داخلية، في محاولة لتسليط الضوء على بداية تشكّل اتجاه جديد ومختلف من مؤرخين فلسطينيين وعرب، بدأوا يحاولون قراءة تاريخ فلسطين بالاعتماد على المصادر التي أنتجها الناس أو أنتجت عنهم.