لكن التفاصيل قد تعاد وتتكرّر، ففي الحياة البشرية يسود التنوّع واختلاف العادات والتقاليد، ولكن ضمن تلك التفاصيل يرقد الشيطان الذي يكرّر أفعال البشر أحياناً إمعاناً في تحدّي عرفهم الثابت عن استحالة التكرار.
تجد مثل ذلك في الرواية مثلاً، ويمكن لمشهد روائي كتبه ألكسندر دوماس في القرن التاسع عشر أن يمثل لحظة سورية بامتياز، ففي مطلع روايته "الفرسان الثلاثة" نقرأ ما يشير إلى راهننا مثل: "كان الذعر والفوضى يعمّان المقاطعات الفرنسية.. وراح السوقة وقطاع الطرق يعتدون على المواطنين الآمنين، فيساهمون بقسط وافر في زيادة الفوضى والاضطرابات في طول البلاد وعرضها". هذا نص مطابق يعيد إنتاج اللحظة الراهنة بلا رتوش، ودون تزوير، فيما يكشف للقارئ أن لحظات الحروب تتشابه كي ترشح بعض التفاصيل في التاريخ للتكرار.
وفي رواية "الفهد" لجوزيبي تومازي دي لامبيدوزا التي ترجمها عيسى الناعوري في السبعينيات من القرن الماضي يقول روسو للأمير الذي يسأله عن أسباب انضمامه للثورة ضد الملكية: "لم نعد نطيق الحالة: تفتيش. استجوابات. تقليب بيوت لأقل سبب، وحواجز عند زاوية كل بيت. لم يعد الإنسان الكريم يستطيع أن ينصرف إلى شأنه. أما بعد ـ أي بعد أن تنتصر الحركة - فإننا سننعم بالحرية والأمن وتخفيف الضرائب، وسهولة العمل وحرية التجارة"، وفضلاً عما يعكسه هذا النص من روح الاحتجاج والسخط على الأوضاع المزرية التي قادت الملكية البلاد والناس إليها، فإنه يعبّر عن الحلم الذي يسعى إليه البشر، وفي هذا الحلم بالذات يعيد التاريخ تكرار نفسه بلا توقف.
فالحلم بالحرية مثلاً كان الرافعة التي دفعت الحشود للثورة على الملكية في فرنسا، أو كانت هي الدافع الرئيسي لتلك الثورة، ويمكن القول إنه كان في أساس جميع الثورات، وبهذا وحده يتكرّر النهوض أو التمرّد أو الانتفاضات أو الثورات في التاريخ. فإذا كان هذا المستبد يختلف عن ذلك المستبد، فإن محتوى الاستبداد واحد تقريباً لا يتغيّر إلا قليلاً.
ولهذا يأخذ كتاب مثل "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي أهمية عربية منذ أن كتب إلى يومنا هذا، إذ يكرّرون العودة إليه بلا توقف، ذلك أن الاستبداد لا يزال يتكرّر في أرضهم.