كلُّ شاعر يرحلُ عن هذا العالم مثلما ترحل الظلال يستحق اعتذاراً، ليس من هذا الفرد أو ذاك، أو من هذه الجماعة أو تلك، بل من عصر كامل ظل ويظل ممعناً في التنكر لكل ما تمناه الشعراء، لكل ما حلموا به وأحلامهم أصدق من وقائعه، ولكل وجه جميل كشفوا عنه ودلوا عليه.
محض ظلال، هكذا تخيل الشاعر الراحل (الفلسطيني قبل كل شيء) خيري منصور، العالم من حوله، فكتب ذات يوم من أيام عام 1986:" ظلال.. محض ظلال فوق الجدران أو خلفنا، والغروب يواصل نفي شموسه إلى عدم.. كل بضعة أعوام نلتقي فجأة وتتقاطع ظلالنا.. لنواصل أيها التوأم البشري والشعري حربنا".
ولم تكن هذه الحرب المشار إليها حرباً على أشباح بل على ممثلي عصر يضغطون لينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة فيجد غيره، ويضغطون ليجد الشاعر نفسه في غرفة عمياء، يقرأ حتى الموت رواية أبطالها من صمت وأحداثها من صمت، وعنوانها الممسوح.. هذا الوقت. كل هذا همس به أحياناً وكتبه في أحيان أخرى. ومع ذلك لم تكن الكتابة هي ما يحرِّره في هكذا غرفة أو زقاق أو وطن، بل الكلام، والكلام وحده حتى أعلى قمة فيه.
أما الكتابة، تلك المهنة المثقلة بالقيود، فكانت تضيق به ويضيق بها، حتى وإن تخيل القرّاء، من أحبّه ومن نفر منه على حد سواء، أنه فخور بها أو سعيد في أحسن الأحوال. ومن استمع إليه وهو يتحرر من إلصاق حرف بحرف، وكلمة بكلمة، وورقة بورقة، ويتحدث مثلما يتحدث أي راوية حكايات، سيجد الشاعر فيه جلياً، بل وربما أشد جلاءً مما هو في مجموعاته الشعرية.
في ضوء هذه التجربة الملموسة التي لابد مرّ بها كل من جلس إليه أو صادفه، يستحق خيري منصور اعتذاراً من الذين كتبوا بعد ساعات قليلة من وفاته عن آخرَ متوهمين أنهم يخبرون عنه؛ كتبوا عن جهاده "الصحافي" وعن "الكاتب الكبير" في شبه تعام عن الشاعر، أي عن جوهر كينونته، وعن المفكر ذي الحس النقدي الذي قلما أخطأ المرمى.
صحيح أنه، كما أشار هؤلاء، عمل في عالم الصحافة، وانغمر في كتابة مقالة يومية لا تمت بصلة إلى عالمه بقدر ما كانت تمت بصلة إلى ما يملأ أدمغة أصحاب الصحف، ولكن لا أحد يتذكر أو يعي أن هذه محنة مضافة إلى محن الشعراء؛ أن يتحولوا إلى نحل عاطل عن العسل، جوّال ومرفرفٍ ولكن فقط لتوفير لقمة العيش.
ما الذي كان يحلم به صاحب "غزلان الدم" و "لا مراثي للنائم الجميل" و"ظلال" وبقية مجموعاته الشعرية؟ ما الذي كان يسعى إليه صاحب كتاب "الاستشراق والوعي السالب" الذي تجاهل ذكره من أوجزوا مسار حياته في سطور قليلة؟
يمكن تلخيص حلمه وسعيه، في الشعر والنقد والبحث، بكلمة واحدة هي التحرر؛ التحرر من منفاه، من ضواغط على هويته الفلسطينية دفعته يوماً إلى الشعور بأنه أنجز مأثرة لمجرد أنه أشار في صحيفة أردنية إلى فلسطينية زميل شاعر وهو يكتب عن مجموعة شعرية له، والتحرر من شواغل لا تمت إلى طاقته الإبداعية بصلة من قريب أو بعيد استهلكت عمراً بأن حولته إلى ورق، وأخيراً أن يتحرّر هذا العصر المحيط به من الأشباه، أشباه الشعراء وأشباه المناضلين وأشباه النقاد، حتى وإن كان أناسه في المآل النهائي ظلالاً تتلاقى وتتقاطع على الجدران أو الأرصفة.
ولئن كان لابد من عبارة تختصر حياة ومسعى خيري في منفاه بعيداً عن فلسطين فهو أنه ظل طوال زمن ممارسته للكتابة أشبه بالسجين المثقل بالقيود، يعيش حالة اغتراب لا تفسير لها، ولم يكن ينطلق ويتألق، موهبة وشاعرية، إلا حين يلقي بالقلم جانباً ويتحدث وتنطلق ذاكرة الراوية فيه، الراوية الذي يرى الأرجنتيني بورخيس أنه هو الشاعر الحق.