يروي محيي الدين بن عربي عن مُصادَفَتِه بمكّة، عند حلوله بها سنة 598 هجري، علماءَ وصُلحاء أكابر كان أفضلَهم وأوْقَعَهم في نفسه الشيخُ أبو شجاع زاهر بن رستم وأختُه "المُسِنّة العالمة، شيخة الحجاز فخر النساء بنت رستم"، التي رغِب المتصوِّف الأندلسي في أخذ الرواية عنها، فاعتذرت له بقولها: "فنيَ الأمل، واقترب الأجل، وشغلني عمّا تطلبه منّي من الرواية الحثُّ على العمل، فكأني بالموت قد هجم، فأقرع سنّ النّدم".
وكانت لأبي شُجاع بنتٌ من "العابدات العالمات السابحات الزاهدات... ساحرة الطرف، عراقية الظرف"، تُسمى النِّظامَ، أفردَها محيي الدين ديوانَه الشهير "ترجمان الأشواق"، وضمّنه "أحسنَ القلائد بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق [...] أعربتُ - فيه - عن نفس توّاقة، ونبّهتُ على ما عندنا من العلاقة، اهتماماً بالأمر القديم، وإيثاراً لمجلسها الكريم".
لكن "النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض" أنكرتْ على الكبريت الأحمر تشبيبَه بالنِّظام، ولاكتْ تعلُّقَه بها وتأوَّلتْ أشعارَه أقاويلَ اضطُرَّتِ الشيخَ إلى "تقييد هذه الأوراق، وشرحتُ ما نظمتُه بمكّة المشرّفة من الأبيات الغزلية"، في كتاب هو "ذخائر الأعلاق: شرح ترجمان الأشواق"، الذي يُعدُّ البيتُ أسفلَه تمثيلاً للاستراتيجية المتّبعة فيه:
فاصرفِ الخاطرَ عن ظاهرها/ واطلبِ الباطنَ حتى تعلما.
لنتذكَّرْ أنَّ رومان جاكوبسون ميَّزَ بين ثلاثة أنواع من الترجمة، هي: الترجمة داخل- لغوية؛ وتُعاد فيها صياغة العلاماتِ بعلامات من اللغة ذاتِها. والثانية الترجمة بَيْنَ- لُغوية؛ وتُعوِّض فيها علاماتٌ لغويةٌ أجنبية عَلاماتٍ لغوية في نَصّ الانطلاق. والترجمة بينَ- سيميائية؛ وتتحوَّل فيها العلامات اللغوية إلى غيرها كالسينما، أو الرقص، أو الموسيقى...
ما معنى أنْ يشرح ابن عربي قصْدَ قوله الشعري؟ جليٌّ أنَّ شرحه ديوانه يندرج ضمن النوع الأوّل من الترجمة، لأن ما قام به هو شرْحٌ ذاتي لديوانه اعتباراً لانزعاجه من القراءات المغرِضة التي مارسَها قُرّاءٌ اطلعوا على كتابه، ولعدم اقتناعه بالكفاءة التوصيلية لأشعاره في ترجمة أشواقه وأفكاره ومذهبه أيضاً.
لقد لجأ إلى تحويلها بِفَرْط المنظوم إلى منثور، داخل اللغة العربية نفسِها والثقافة ذاتها، لكن وفق سنن المتصوِّفة، حيث تَحضُر الإشارة مفيدَةً بما تنطوي عليه العبارة، لِيُوَجِّه بذلك قارئَه إلى تأويل مُعيَّن ونهائي، مما يُعدُّ إجهاضاً صريحاً لحقِّ الأخير في أنْ يبني معنى للنص خاصاً به.
وواضح أن ابن عربي تطلّع إلى إبعاد التهمة عنه، لكنه لم ينتبه إلى أنّ في تفسيره لأشعاره ما يُفيد تضحيتَه بها من حيث جمالياتها، وهي مكوّن حاسم في الشعر، لأنه بإعطائه قصائدَه معنىً لازماً لازباً يكون قد أجهز على القصيدة بالحد من فُرص امتدادها وتمدُّدها.
ما قام به ابن عربي من حصر لمعنى الشعر الوارد بين دفّتَي "ذخائر الأعلاق"، بالعودة بنا إلى المستوى الخطابي الأوّل للمؤلِّف - الشاعر، يوضّح أن الشارح بصفته مؤلِّفاً في الوقت نفسه يهتمّ بإعادتنا إلى السياق الذي أُلِّفتْ فيه تلك القصائد.
في "ترجمان الأشواق"، كان ابن عربي مُرسلاً لنصِّه الشعريِّ- الرسالةِ، ويروم كأي مؤلِّف إيصال مؤلَّفِه- رسالتِه إلى القارئ، بينما في "ذخائر الأعلاق" ينقلب إلى مُستقبلٍ لنصّه الأوَّلِ فمؤوِّل لَه ووسيطٍ ثم مُرسِل لَه في الوقت ذاته، وهي سمة تطبع عمل المترجِم عموماً، لأن كلّ مترجِم هو في الأصل مُستقبلٌ لنص أجنبي، فمؤوِّلٌ له، ينتهي الأمر به إلى إرسالِه مجدَّداً نصّاً مَصوغاً في لغة أخرى. لكن الطريف هنا هو أنّ المؤلِّفَ ابن عربيّ هو نفسُه المؤوّل.
تصير القصيدة لدى محيي الدين شبيهة بالكلمة التي يقتضي فهمُها النظرَ إليها في سياقها النصّي والتداولي، فما يقوم به الشارح هو إعادة تقديم القصائد من خلال إضاءة السياق الذي قيلتْ فيه.
وفي الواقع، يبدو ما قام به ابن عربي ليس سوى إعادة صياغة نصّه أي ترجمتِه، وأنه عِوَض سعيه إلى إيصال الفهم الصحيح لشعره يكون قد سقط هو نفسُه في التأويل المُغرِض الذي حاول إبعادَه عن نصوصه، وفي أحسن الأحوال يصير عملُه تمديداً من قِبَل الذات لنصِّها، وفي ذلك تأكيد لما لمّح إليه غادامير من أنّ كل عمل أدبي "يظل هو نفسُه أصْلَ نفسِه الخاصّ"، مما يتيح له أن يكون منطلَقاً لنص آخر.