تتمحور الدورة السابعة من "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة، حول إشكالية مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية. لا تخفى أهمية السؤال الذي يطرحه المؤتمر وخصوصاً في السياق العربي؛ إذ يفتح على تحدّيَين: إدراك المناهج الغربية وتعلّمها من جهة، والتمكّن من تكييفها وتطويرها لتتوافق مع الظاهرة المجتمعية التي تشخّصها.
خلال المحاضرة الافتتاحية، أكّد الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي أن "المنهج يكون دوماً لصيقاً بالبحث"، إذ يرى أن "أي بحث جِدّي، يتوجّب عليه أن يكيّف منهجه مع طبيعة الظواهر التي يقوم بتحليلها". ينتقل حمودي مباشرة للحديث عن وضع العلوم الاجتماعية في السياق العربي، ويرى أنها تقوم على الاقتباس من مثيلاتها الغربية وفي الآن نفسه تهدف إلى التحرّر من تلك التبعية.
يشيد الأستاذ في جامعة برينستون الأميركية بكتابات ما بعد الكولونيالية، التي تقوم على نقد النصوص الكولونيالية وكونيتها الخاطئة، لكنه يقول بتبنّيه منهجاً آخر هو "النقد المزدوج"، الذي يعرّفه بالطريقة نفسها تقريباً التي عرّفه بها عبد الكبير الخطيبي حين كتب: "ينصبّ ـ النقد المزدوج ـ علينا كما ينصبّ على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الأيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة. ويبدو لي أن مثل هذا السبيل هو الكفيل بأن يدعم استراتيجيتنا: فيمكّن البلدان التي تخضع لسيطرة الغرب ـ مهما كان شكل تلك السيطرة ـ من أن تدرك إدراكاً أحسن أسس الهيمنة الغربية".
نجد تعبيرات عن هذا "النقد المزدوج" وأصداء له عند مفكّرين آخرين بمستويات مختلفة، يندرجون في السياق النقدي للثقافة العربية المعاصرة، مثل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، وخصوصاً محمد أركون، ولمَ لا عبد الله حمودي الذي كشف مثلاً في "الشيخ والمريد" العلاقة بين الاستعمار الفرنسي واستمرار السلطوية بثقافتها الدينية، بل تحديثها وتحديث هياكلها، ودعمها لتبسط سيطرتها على جميع مجالات الحياة.
تحدّث حمودي أيضاً، عن اقتباس منهجية علم الاجتماع الغربي في دراسة المجتمعات المغاربية، وضرب مثالاً برائد السوسيولوجيا المغربية بول باسكون الذي تركز همّه، برأي حمودي، على نقطتين: "بناء معرفة دقيقة حول مجتمع يحسّ بأنه ينتمي إليه بقوة، وغرس العلوم الاجتماعية بما فيها المناهج في بلده ومجتمعه"، ويرى المحاضِر أن باسكون، إلى جانب سوسيولوجيين آخرين من المغرب العربي، عمدوا إلى تكييف تلك المناهج الغربية مع الظواهر الاجتماعية التي قاموا بتشخيصها. يتحدّث حمودي عن باسكون بنوع من الاعتراف بالجميل، معتبراً أنه عمّق الهوّة بين المنهج الغربي والواقع المغربي، واستطاع أن يحوّل تلك الهوّة إلى مصدر للإبداع ومنبع للتجديد على مستوى المنهج والمفاهيم.
يؤكد حمودي أن الاقتباس لا يعني التطبيق الأعمى، كما لا يرى أنه نقيض الإبداع، وقد يدفع الاحتكام إلى الواقع وتعقيد ظواهره إلى إعادة النظر في الاقتباس وتطويره ومواصلة كتابته. ويقترب فعل الاقتباس، كما مارسه باسكون، كثيراً من مفهوم حمودي عن "النقد المزدوج"، فهو يرى أن "موقعنا اليوم كعرب داخل حركة الأفكار الدولية هو موقع الاقتباس من اللغات المركزية"، وهو يطلب تجاوز هذه المركزية؛ ليس عبر رفض الموروث الغربي ولكن عبر تجربته، أو عبر التجربة الميدانية الطويلة النفس كما يسمّيها، والذهاب بذلك الموروث الكولونيالي إلى حد "تأزيمه أمبيريقياً" بحسب تعبيره؛ فإذا كانت التجربة الميدانية سبيلنا إلى التحرّر من معرفة هي هيمنة، أو طريق تحويلها إلى "نقد مزدوج" كما أرادها الخطيبي، فإن أي بحث لواقعنا العربي، يستدعي المحافظة على ما يسمّيه حمودي المسافة بين الذات والموضوع. فالمسافة هي التي تحمينا من إغراء الانتماء الذي قد يسود التفكير النظري أو الديني مثلاً، كما تشجّع على انفتاح أكبر على اللغات وفعل الترجمة وعلى لعبة الخروج من لغة إلى أخرى، وتستدعي الدخول في منافسة على الكونية على مستوى العالم.
بقي أن نتوقّف قليلاً عند مفهوم التبعية كما استعمله حمودي في محاضرته، الذي لا يتجاوز استعماله في السياق العالمثالثي. وهنا تكمن ضرورة أن ننظر نقدياً إلى المفاهيم التي ساقها خطاب التحرّر من الاستعمار، ولا نتعامل معها باعتبارها مفاهيم موضعية أو ذات صلاحية عابرة للسياقات. فإذا تحلّينا بقليل من الواقعية، فسنعترف بوجود شكلَين على الأقل للتبعية، تبعية نستطيع أن نفيد منها ونتعلّم منها، فعلينا كـ"متخلّفين حضارياً" أن نجلس في تواضع في مدرسة الحداثة. وأخرى تُخرجنا من الحداثة أكثر مما تربطنا بها، وتلك التي تتجلى في التغريب من جهة، وفي خطاب الهوية والأصالة من جهة ثانية.
هكذا علينا أن نعمد إلى نزع الطابع الاستعماري عن المعرفة، مثلاً عبر محاربة الثقافوية وفضحها، وعبر انفتاح أكبر على التحليل الاقتصادي والتاريخي للظواهر المجتمعية، وعبر عمل ميداني طويل النفس كما يريده حمودي.
لكن هل نستطيع أن ننكر أن تلك المهمة انبرى لها الخطاب الغربي قبلنا؟ وما زال؟ ألم يكتب الخطيبي مثلاً عن تفكيكية دريدا باعتبارها نزعاً للطابع الاستعماري عن الفكر؟ وألا نجد في المقاربة الإثنولوجية التي يقدمها أنثروبولوجي مثل الألماني ديتر هالر لمدينة طنجة المغربية، المعرفة والتجربة في آن واحد، التي نفتقر إليها في الخطاب الفكري في هذا البلد، والتي يمكن عبرها فهم فشل المشروع التحديثي الذي تقوده الملكية في المغرب، وطبيعة أو هوية الدولة الانفصالية في السياق العربي، ومعها الأزمات العاصفة التي تنتظرنا في المستقبل؟
في الحقيقة، يتوجّب نزع الطابع الاستعماري عن الفكر أن يتحقق خارج منطق الهوية الارتكاسي. فطريقنا إليه يمر عبر النقد لا عبر الهوية، وهوية النقد أسئلته المجتمعية، ولربما يكمن هذا الطابع الاستعماري خصوصاً في نسيان الواقع، وبلغة أخرى في غياب المسافة. للسبب عينه يمكن القول: ليس النقد المزدوج ما أنجزناه، ولكن ما يجب أن ننجزه.