خلافاً لفنانين آخرين انخرطوا في ساحات القتال مثل الألماني أوتو ديكس والروسي أوسيب زادكين، عايش الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973) جميع الحروب التي مرّت في حياته بعيداً عن الجبهات، كشاهد عيان على تداعياتها وآثارها.
حين كانت لوحاته التكعيبية الأكثرَ شهرة ورواجاً، اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) التي شكلّت نقطة تحوّل في أوروبا لم تقف عند تغيّر الخرائط والتوازنات السياسية، بل تجاوزتها إلى الأدب والفنون، وكانت تلك لحظة مكثّفة في حياته سيختبرها لاحقاً مرات عديدة في حالات مختلفة.
حتى الثامن والعشرين من يوليو/ تموز المقبل، يتواصل في "متحف الجيش الفرنسي" معرض "بيكاسو والحرب" الذي افتتح في الرابع من الشهر الماضي. يتناول المعرض حضور الحرب في تجربته، سواء من خلال لوحاته المعروفة، أو أرشيفه الخاص، أو وثائق لها علاقة وطيدة بالمراحل التي مرّ بها. يكشف المعرض تفاصيل جديدة عن علاقة الفنان بمجمل الصراعات التي شهدها في حياته، والتي ترتبط عند كثيرين بـ"غرنيكا"، جداريته التي تحمل اسم البلدة الإسبانية التي قصفتها طائرات حربية ألمانية وإيطالية عام 1937 دعماً لحليفهما الجنرال فرانكو خلال الحرب الأهلية.
قبل هذه اللوحة، استخدم بدءاً من عام 1912 قصاصات جرائد عن حرب البلقان في أعمال كولاج، كما رسم لوحة "أحلام فرانكو وكذبه" مع اندلاع الاقتتال بين الجمهوريين الذين انحاز إليهم في وجه الدكتاتورية. المحطّة التالية ستكون خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) حين كان بيكاسو يقيم في باريس، ولم يجد في بعض الأوقات ما يرسم عليه سوى ألواح صلبة، وستظهر في لوحاته الخطوط العريضة السوداء التي تعكس الكآبة والوحشة التي خلّفها القتال، وسيرسم في إحداها قطة تستولي على طائر أعزل.
في الحادي عشر من يونيو/حزيران 1940، سيجسّد جوهر الموت بعد هزيمة فرنسا على يد الجيش الألماني الذي احتلّ أجزاء واسعة من البلاد، في لوحة "رأس امرأة" التي تبرز جمجمة مزعجة مسكونة بأسنان مشدودة على خلفية رمادية، وسينفّذ عام 1944 منحوتته الأشهر "رأس الموت" بمزيج من النحاس والبرونز تذكّر بالفناء كحقيقة وواقعة أودت بعشرات الملايين.
كتب بيكاسو بحلول عام 1943: "لم تُصنع اللوحة لتزيين البيوت. إنها أداة حرب هجومية ودفاعية ضد العدو"، وقدّم العديد من الأعمال التي تصوّر مرحلة سادها الإحباط مع تقدّم جيش هتلر في مناطق عديدة من أوروبا، ومنها "الأصبوحة"، و"سيدتنا باريس"، و"إبريق أسود وجمجمة".
إلى جانب الرسم والنحت، سيفاجأ الجميع بتأليفه مسرحية "الرغبة الممسوكة من الذيل" عام 1941، لتقدّم في قراءات بعد ثلاثة أعوام بحضور مجموعة من أصدقائه هم جاك لاكان وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو ودورا مار وجورج باتاي، ليطلعوا على نص سوريالي يتناول قصة مثقفين لاذوا بالفرار من باريس أثناء الحرب العالمية الثانية، ويصفهم بالقمامة.
في كلّ ذلك، عبّر بيكاسو عن رؤيته الرافضة للحرب، باعتبارها أداة لقتل الإنسان وتدمير الأمل من دون الانحياز إلى سلطة أو أيديولوجيا، حتى مع انضمامه أثناءها إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي خالفه أكثر من مرة في مواقف اتخذها ضدّ سياسات الاتحاد السوفييتي القمعية بحقّ كتّاب وفنانين.