انصبَّت أنظار العالم على الاجتماع السنوي لكلّ من المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني والمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني والمعروف باسم اجتماع "الدورتين السنويتين" Two Sessions أو"ليانغهوي" Lianghui الذي انعقد خلال الفترة ما بين 4 و11 مارس/ آذار 2021.
يعتبر مراقبو الاستراتيجيات الصينية هذا الحدث المهم مرآة تعكس التحرُّكات المقبلة للحكومة الصينية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية كافة، وقد كشفت هذه المرآة للمستثمرين والمحلِّلين هذا العام ما لم يكن بالحسبان، ففي حين أشارت تنبؤات صندوق النقد الدولي إلى كفاح الصين المستمرّ لكسر حاجز النمو الاقتصادي بمعدّل 8 في المائة، فاجأت الصين الجميع بتحويل تركيزها واهتمامها من السعي وراء معدلات النمو المرتفعة إلى خفض الديون وإجراء إصلاحات هيكلية واسعة النطاق، فقد صرّح رئيس الوزراء الصيني، لي كه تشيانغ، في آخر يوم من أعمال هذا الاجتماع بأنّ الحكومة الصينية تهدف إلى تحقيق معدل نمو اقتصادي يفوق الـ6 في المائة، الأمر الذي تمَّ اعتباره في غاية التحفُّظ مقارنة بأهداف النمو الجامحة التي وضعتها الصين نصب عينيها سابقاً.
لقد تضمَّن هذا الاجتماع مناقشات تستصغر نهج استهداف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي وتثمِّن استراتيجية دفع النشاط الاقتصادي من خلال التركيز على مقاييس أخرى كخلق اﻟﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻓﺮص اﻟﻌﻤﻞ، وتحجيم الديون، وتعزيز الإصلاح، وإطلاق العنان للابتكار التكنولوجي، إذ اتخذت الصين من هذا الحدث منبراً لتؤكد للعالم أجمع على اتجاهها الجديد نحو تنمية عالية الجودة تخدم أولاً، وقبل كلّ شيء، رفاهية الشعب الصيني.
كما أكَّد، لي كه تشيانغ، على ضرورة تخفيض عجز ميزانية الحكومة المركزية بنسبة 0.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتحديداً من العجز البالغ 3.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي والذي تمَّ تسجيله العام الماضي إلى حوالي 3.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المتوقَّع تسجيله بحلول نهاية العام الجاري.
ولم يُفوِّت رئيس الوزراء الصيني الفرصة للإعلان عن تقليل الاعتماد على إصدار السندات الحكومية المحلية والتي تعتبر أهمّ وسيلة لتمويل تطوير البنية التحتية، بالإضافة إلى وقف دعم تحفيزي بقيمة تريليون يوان صيني أي ما يعادل تقريباً 140 مليار دولار من سندات الخزانة الخاصة التي تمَّ إصدارها العام الماضي لمواجهة جائحة كورونا، كخطوة للتخلص التدريجي من الخطّة الاستثمارية الهائلة التي خُصِّصت لمواجهة آثار الجائحة، في الوقت الذي ضاعف فيه الرئيس الأميركي، جو بايدن، التحفيز المالي ووقَّع على مشروع قانون خطّة مساعدات اقتصادية بقيمة 1.9 تريليون دولار لمدّ يد العون للأميركيين المتضرِّرين من الجائحة.
كما كشفت الحكومة الصينية في اليوم الثاني من اجتماع الدورتين عن مسودّة الخطّة الخمسية الرابعة عشرة والتي تعتبر علامة بارزة لإستراتيجية التحوُّل الجديدة التي تعتمدها الصين في مجال التنمية الوطنية حتى عام 2025، فعلى العكس من الخطط السابقة، تجاهلت هذه المسودّة تحديد هدفٍ للنمو الاقتصادي وركَّزت بدلاً من ذلك على أزمة الديون المتضخّمة التي تعادل تقريباً 280 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي والتي ستجرّ الاقتصاد الصيني مستقبلاً نحو الأسفل إذا لم تجرِ معالجتها بشكل صحيح.
ومن أبرز الخطط الإصلاحية التي أخرجها هذا الاجتماع للعلن نجد عزم الحكومة الصينية على إدارة الحركة الداخلية للعمال المهاجرين من المناطق الريفية بحثاً عن فرص عمل متاحة في المناطق الحضرية، من خلال تثبيط الهجرة من المدن التي يقلّ عدد سكانها عن 5 ملايين نسمة، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من التفاوتات الاقتصادية، إذ سيحظى المهاجرون إلى المدن الأكثر ثراءً بخدمات عامة ذات جودة أفضل، بينما سيظلّ المهاجرون العالقون في المدن الأصغر، من ناحية عدد السكان، عرضة للمعاناة من رداءة نوعية الخدمات العامة المُقدَّمة لهم هناك.
لقد أثبتت الصين مجدداً من خلال هذا الاجتماع أنّها تؤمن بعقيدة أنّ لا شيء يعلو على الاقتصاد حتى البيئة، إذ لم يتمّ تقييد مستويات إنتاج الفحم واستهلاك الطاقة، وهذا ما ينمّ بأنّ الصين تمضي قدماً في سعيها لتكون قاعدة ابتكارات العالم، لكنّها لن تتخلَّى أبداً عن كونها مصنعاً للعالم بلا منازع.
وتعطُّش بكين لمزيد من رؤوس الأموال الأجنبية والمعارف والمهارات التكنولوجية كان واضحاً في اجتماع هذا العام، إذ أفاد رئيس الوزراء الصيني بأنّ إنفاق بلاده على البحث والتطوير سيفوق الـ7 في المائة سنوياً خلال الفترة الممتدة ما بين 2021 و2025، علماً أنّ ذلك الإنفاق سجَّل ارتفاعاً بنسبة 10.3 في المائة ليصل إلى 2.44 تريليون يوان صيني أي ما يعادل 378 مليار دولار تقريباً في عام 2020، وذلك وفقاً لبيانات المكتب الوطني الصيني للإحصاء National Bureau of Statistics of China، فقد صرَّحت وزارة التجارة الصينية برغبتها في جذب مراكز البحث والتطوير المُموَّلة من الخارج لتساهم أيضاً في الإنفاق على البحث والتطوير المحلي، ومن هنا يتَّضح كذلك أنّ الصين باتت أكثر انجذاباً للنموذج الذي يُمكِّنها من التطوُّر على الصعيد التكنولوجي بالاعتماد على التمويل الخارجي، لكنّ ما يعيق نقل التكنولوجيا إلى بكين هو ضعف نظام حماية الملكية الفكرية الخاص بها وقوانينها التي تترك الشركات الأجنبية عرضة للتجسُّس وسرقة أحدث تقنياتها الخاصة.
خلاصة القول إنّ الصين أصبحت أكثر إدراكاً لحقيقة أنّ الاعتماد الأساسي على الناتج المحلي الإجمالي لن يُمكِّنها من شقّ طريقها بثبات نحو التقدُّم وقيادة العالم، فذلك لن يحلّ مشاكلها المتجذرة التي تتطلَّب تطبيقاً صارماً لإصلاحات هيكلية واسعة النطاق.
ما قد يعيق الصين في تحقيق تطلُّعاتها الجديدة هو الشبح الكوروني الذي سيُخيِّم على اقتصادها لفترة أطول مقارنة بالولايات المتحدة، ويرجع ذلك إلى تخلُّف الصين بشدّة في تلقيح سكانها البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، ففي نهاية فبراير/ شباط 2021، تمَّ تطعيم 4 في المائة فقط من الصينيين ضدّ كورونا، وهذا ما يقلّ بكثير عن نسبة 40 في المائة من المواطنين الذين تطمح الحكومة الصينية لتزويدهم بجرعة واحدة على الأقل من اللقاح بغية الوصول إلى مناعة القطيع بحلول العام المقبل.