من حق القضاء اللبناني ممارسة سلطاته كاملة دون عرقلة من أحد، وملاحقة المجرمين وناهبي المال العام بالكيفية التي يختارها، فهو المنوط به تحقيق العدل وتطبيق القانون ومحاربة الجريمة.
ومن حقه ملاحقة أي شخصية حتى لو كانت عامة وبوزن رياض سلامة حاكم "محافظ" مصرف لبنان المركزي، بل وإلقاء القبض عليه في حال إذا ما ثبت بالدليل القاطع صحة الاتهامات الموجهة إليه ومنها الاشتباه بارتكابه جرائم خطيرة منها تهريب الأموال إلى الخارج وغسل الأموال القذرة ونهب المال العام والإثراء غير المشروع والتزوير والاحتيال واستغلال النفوذ والانتفاع من وظيفته وغيرها.
رياض سلامه تلاحقه شبهات برتكابه جرائم خطيرة منها تهريب وغسل الأموال ونهب المال العام والإثراء غير المشروع والتزوير والاحتيال
لكن ليس من حق أحد إهالة مزيد من التراب والسواد على صورة لبنان ومؤسساته، وسكب مزيد من الضبابية والغموض وعدم اليقين على اقتصاده وقطاعه المالي والمصرفي، خاصة في هذا التوقيت الذي تشهد فيه البلاد انهياراً اقتصادياً ومالياً كاملاً، وعجزاً عن سداد أعباء الديون الخارجية، واحتجاجات واسعة النطاق تشل البلاد.
وليس من حق الأجهزة المسؤولة الدخول في معارك مع بعضها البعض على حساب الدولة والمواطن وارباك المشهد الاقتصادي والمالي بحركات عنترية.
اليوم الثلاثاء دخلت مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون مقرّ مصرف لبنان المركزي وبرفقتها قوة مدججة بالسلاح للبحث عن رياض سلامة وتفتيش ذلك المكان الحساس وموجوداته ومكاتب موظفيه، وخرجت هي ومن يرافقها من المكان بعد أن لاقت اعتراضات من موظفي البنك وبعض الأجهزة في الدولة على ما حصل.
سبق هذه المداهمة معاينة القاضية لمنزل رياض سلامة الذي يقطن به وفتح عددٍ من الخزانات ومصادرة أوراق بداخلها.
واليوم داهمت أيضاً قوة من جهاز أمن الدولة المحسوب على رئيس الجمهورية ميشال عون مقرّ مصرف لبنان الواقع في وسط بيروت للبحث عن رياض سلامة، لكنها لم تتمكن من الدخول لعدم حصولها على أمر قضائي بعد، وذلك بالتزامن مع وصول القاضية غادة عون إلى مقرّ البنك.
كما نفّذت قوّة من نفس الجهاز الأمني اليوم عملية دهم لإحضار حاكم البنك المركزي من منزله، لكنها لم تعثر عليه.
تحركات سريعة وفي توقيت متزامن ومن عدة جهات قضائية وأمنية، وكأن رياض سلامة هو شخصية مغمورة لا يعرفها أحد، أو أن تركه حرا طليقا لساعات يمثل خطراً شديداً على مساعديه ومن حوله من المصرفيين والعاملين في البنك المركزي، رغم أن الاتهامات الموجهة للرجل تمت قبل سنوات.
وأنا هنا لست ضد ملاحقة رياض سلامة قضائيا، علما بأنني طالبت مرات عدة باستقالة الرجل من منصبه، خاصة وأنه بات يمثل خطرا حقيقيا على لبنان واقتصاده وقطاعه المالي والمصرفي، وأن استمراره في موقعه يأكل من رصيد لبنان المالي والسياسي.
طالبت باستقالة الرجل، خاصة وأنه بات يمثل خطرا حقيقيا على لبنان واقتصاده وقطاعه المصرفي، وأن استمراره في موقعه يأكل من رصيد البلاد
من حق القضاء والأجهزة الأمنية ملاحقة أرفع مسؤول مصرفي في البلاد وهو محافظ البنك المركزي وكبار مساعديه في إطار التحقيقات التي تجريها أجهزة الدولة حول مليارات الدولارات التي تم تهريبها إلى الخارج عبر البنوك، وللأسف تورط فيها قيادات سياسية ومصرفية مرموقة في عملية التهريب.
ومن حقها كشف حقيقة الفساد الضخم داخل القطاع المصرفي وما يحدث من مخالفات جسيمة داخل مصرف لبنان، ومحاولة معرفة حجم وأسباب الخسائر التي تعرضت لها الدولة اللبنانية بسبب عمليات غسل الأموال والرشى وتهريب الأموال التي تمت في السنوات الماضية.
ومن حق الجميع أن يعرف دور مصرف لبنان في انهيار الليرة وفقدانها أكثر من 90% من قيمتها منذ عام 2019، ومسؤولية محافظ البنك كذلك عن ضياع الاحتياطي الأجنبي، وقفزة الدين الخارجي، وعدم القدرة على سداده لاحقاً.
من حق الشعب اللبناني أن يعرف كل تلك التفاصيل التي كانت نتيجتها إفلاس لبنان ووضع البنوك يدها على أموال المودعين وشبه مصادرتها منذ عام 2019.
استخدام أسلوب الاستعراض في معالجة شأن قضائي ومالي حساس ليس مطلوباً على الإطلاق
لكن استخدام أسلوب الاستعراض في معالجة شأن قضائي ومالي حساس ليس مطلوباً على الإطلاق، فاقتحام مصرف لبنان المركزي هو بمثابة سكب مزيد من الزيت على نار الأزمة المصرفية والمالية العنيفة التي تمر بها البلاد، وفقدان ما تبقى من ثقة في البنوك اللبنانية من قبل المؤسسات الخارجية، وممارسة ضغوط إضافية على القطاع المالي.
رياض سلامة شخصية عامة بحكم موقعه، فهو أقدم محافظ بنك مركزي في المنطقة العربية، ويظهر في الفضائيات ويشارك في اجتماعات رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، ومن السهل معرفه مكانه، واستدعاؤه للتحقيق مرات، ولذا لم يكن هناك داع لاقتحام البنك المركزي بحثاً عن شخصية عامة في مشهد استعراضي أضراره أخطر كثيراً من منافعه.
كان من السهل استدعاء سلامة مرات لسماع أقواله فيما هو منسوب إليه خاصة ما يتعلق بارتكاب جرائم اختلاس أموال عامة وتزوير وإثراء غير مشروع وغسل أموال وتهرب ضريبي، علماً بأنه سبق أن استمعت النيابة العامة التمييزية في لبنان إلى الرجل في 5 أغسطس الماضي، كما يخضع الرجل كذلك إلى تحقيقات في عدة دول أوروبية ومنها سويسرا وفرنسا وبريطانيا ولوكسمبورغ وموناكو.
البنوك أجهزة حساسة تتولى إدارة أموال المودعين وتمويل خطط التنمية والمشروعات وليست أوكار إرهاب ومقار للمافيا والعصابات حتى يتم اقتحامها بطرق استعراضية كما حدث اليوم داخل مقر مصرف لبنان المركزي، ولذا كان من الطبيعي أن تعلن البنوك عن دخولها في إضراب لمدة ثلاثة أيام اعتراضاً على ما جرى.