زاد الغزو الروسي لأوكرانيا الأوجاع في قلوب المصريين، مع اندلاع الشرارة الأولى للحرب. رغم ابتعاد مصر عن حدود المتحاربين، فإن كل رصاصة تُطلق في كييف، تزيد من الأزمات التي تعيشها القاهرة، خاصة مع قلق من توقف واردات القمح من أهم سوقين يوفران أكثر من 70 في المائة من احتياجات نحو 103 ملايين نسمة، من الدقيق والخبز اليومي.
لا يعتبر القمح، الذي تمتلك روسيا وأوكرانيا، 25 في المائة من حقوله عالمياً، مصدراً للأمن الغذائي لدى المصريين فحسب، بل يظل قضية أمن دولة، ومصدراً لشرعية الحاكم، في بلد أعلنت منظمة "الفاو" في تقريرها السنوي الصادر في فبراير/ شباط الماضي، أن 85 في المائة من مواطنيه، لا يستطيعون الحصول على نظام غذائي صحي يومياً.
فرض القمح وارتفاع أسعاره، بمعدلات قياسية خلال الأسبوعين الماضيين، وجوده على الدولة المصرية بأسرها. أصاب الجميع بالفزع. دفع رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي إلى سرعة تشكيل لجنة طارئة لإدارة الأزمة، تجتمع أسبوعيا على الأقل، لحين انتهاء الحرب، التي لا يعلم أحد مداها ولا حدودا لتبعاتها.
حاول مدبولي في اجتماعاته المتكررة، على مدى الأيام المنقضية، التخفيف من آثار الأزمة، بكلمات تطمئن المصريين إلى وجود احتياطي ضخم من القمح، يكفي البلاد حتى نهاية العام الحالي. قال إن معدلات الإنتاج المحلي ارتفعت، لتصل إلى 10 ملايين طن بزيادة 11.1 في المائة عن العام الماضي، مع توقع بأن يورد المزارعون لصوامع الدولة، مع نهاية الشتاء الحالي نحو 6 ملايين طن، فيما تراجعت الواردات من 14.9 مليون طن عام 2014، إلى 10.6 ملايين طن عام 2021.
لم تأت تصريحات رئيس الوزراء مخالفة لما سبق أن صرح به عدد من الوزراء فقط، بل كذا الأرقام التي وزعها مركز معلومات مجلس الوزراء التابع له، خلال اليومين الماضيين ومرفق به " فيديو" يشرح سبل مواجهة الأزمة. رغم اللهجة المطمئنة لتقرير المركز، بين أن الاحتياطي الموجود في صوامع القمح يكفي 4 أشهر فقط، وينتظر توفير نحو 5.5 ملايين طن من السوق المحلية، بما يرفع احتياطي الاستهلاك إلى نحو 8 أشهر.
يبشر تقرير المركز، بأن الدولة ستعمل على زيادة رقعة الأرض المزروعة بالقمح بنحو مليون فدان، خلال الفترة من 2023ـ 2025، "لتتخطى مصر الصعاب وحفظ الأمن الغذائي للمصريين".
واكبت البشرى خروجا مكثفا للمستشار الإعلامي لرئيس الوزراء نادر سعد، على القنوات الإعلامية، ليؤكد أن الدولة سترفع قيمة توريد أردب القمح (يوازي 150 كيلوغراماً)، إلى 820 جنيهاً، بدلاً من 725 جنيهاً كما كان العام الماضي. وصف سعد الزيادة، بأنها ستلبي رغبة الفلاحين، في البيع بسعر عادل، وتمنحهم القدرة على مواجهة التضخم وزيادة الأسعار.
لكن حسين أبو صدام نقيب الفلاحين اعتبر تلك الزيادة غير عادلة، ولن تدفع المزارعين إلى تسليم القمح للحكومة، مطالبا بأن يكون سعر توريد أردب القمح 1000 جنيه على الأقل، مؤكدا أنه بدون تلك الزيادة، لن تستطيع الحكومة تجميع أكثر من 3 ملايين طن من السوق المحلية، أي بنحو نصف الكمية التي يتمناها رئيس الوزراء، وبأقل 400 ألف طن عن توريدات عام 2021.
يتخوف الفلاحون من أن تجبرهم الحكومة على توريد القمح بالقوة، بينما لم تقدم لهم أية مساعدات أثناء إنتاج المحاصيل وخاصة القمح، حيث رفعت أسعار الأسمدة بنسبة 50 في المائة خلال الموسم الحالي، وعادة ما تتأخر في سداد قيمة المحصول، بالإضافة إلى رفعها أسعار الكهرباء وكافة السلع والخدمات.
ويتساءل مزارعون أنه إذا كانت الدولة عرضت شراء القمح من السوق العالمية، بأسعار تزيد عن 300 دولار للطن، ولم تجد بائعين، فلماذا لا تدفع نفس القيمة للفلاح المصري، وتستفيد من تأمين احتياجاتها بدون تكاليف الشحن؟
يؤكد خبراء صعوبة تخزين كميات كبيرة من القمح المحلي، لأن الحكومة باعت الكثير من المخازن "الشون" التابعة للجمعيات الزراعية، وبنك التسليف الزراعي، كما تبلغ الطاقة القصوى للتخزين بالصوامع نحو 3.4 ملايين طن فقط، وفقا لبيانات مجلس الوزراء، بينما يتوقع أن يكون الإنتاج في حدود 10 ملايين طن مزروعة على مساحة 3.6 ملايين فدان العام الحالي.
يشير خبراء إلى عدم انتباه الحكومة لأزمة القمح، قبل حدوثها، رغم التحذيرات التي أطلقتها منظمة "الفاو"، والمجلس الدولي للحبوب، والأمم المتحدة، التي كشفت عن ارتفاع تكاليف الغذاء بنحو 22 في المائة بسبب الطقس السيئ وارتفاع تكاليف الشحن قبل الحرب، وأن اشتعال الحرب لن يؤدي إلى رفع الأسعار فقط، بل سيزيد من عدد الجياع إلى مستويات غير مسبوقة.
وتشير التقارير الدولية، إلى تفاقم الأزمة مع فرض روسيا وأوكرانيا والأرجنتين والمجر وغيرها قيودا على تصدير القمح، رغم ارتفاع سعر الطن بنحو 100 دولار خلال الأسبوعين الماضيين، بنسبة 48 في المائة عن فترة ما قبل الحرب، مع مسارعة الصين إلى شراء احتياطي ضخم من القمح، بلغ نحو 142 مليون طن بما يعادل 50 في المائة من الاحتياطي العالمي من القمح، لتأمين احتياجاتها في وقت أزمة أصابت السوق العالمي بحالة من عدم اليقين في المستقبل.
وتؤكد تقارير المجلس الدولي للحبوب، أن مصر تعد أكبر مستورد للقمح في العالم، عام 2021، حيث استوردت نحو 13 مليون طن، بزيادة عما ذكره رئيس الوزراء، نحو مليونين ونصف المليون طن، وبما يعادل 72 في المائة من احتياجها السنوي، 45 في المائة من الكمية المستوردة جاءت من روسيا و27 في المائة من أوكرانيا، ووفقا لتقرير" الفاو" فبراير الماضي، بلغت قيمتها رسميا 3.2 مليارات دولار.
مع مغادرة 30 سفينة تحمل القمح من موانئ البحر الأسود، اليومين الماضيين، توجهت 3 منها نحو الإسكندرية، على متن كل منها، 63 ألف طن من روسيا وأوكرانيا ورومانيا، وبالتالي تنفست الحكومة المصرية الصعداء. أعادت وزارتا التموين والمالية طمأنة المواطنين، بأن الدولة ستعمل على تحمل بعض الزيادة في تكاليف شراء القمح والدقيق، وعدد من السلع الاستراتيجية التي تمثل أهمية كبرى لنحو 60 مليون فرد، من حملة بطاقة دعم الخبز. لم تأت الرسالة من فراغ، فقد أصاب الذعر الجميع، ليس من الغلاء فحسب، بل مع خوفهم من احتمالية اختفاء مفاجئ لرغيف الخبز، وقد كان غلاؤه مفجرا لانتفاضة كبرى عام 1977، ومع صعوبة الحصول عليه بكرامة، تفجرت ثورة 25 يناير 2011.
وتستبق الحكومة الأحداث بالبحث عن بدائل للقمح في 16 دولة وسوقاً تقليدياً للقمح، مثل فرنسا والولايات المتحدة وأستراليا والأرجنتين وكازاخستان وصربيا وبلغاريا وباراغواي وبولندا ولاتفيا وألمانيا.
وتسعى الحكومة للحصول على قروض عاجلة، من صندوق النقد، لدعم شراء القمح، فقد أغاثها الصندوق من قبل بقروض بلغت 20 مليار دولار، أثناء تخفيض قيمة الجنيه بنحو 60 في المائة عام 2016، وجائحة كورونا عام 2020.
وتعهدت الحكومة بتسليم المخابز الخاصة، الدقيق بالسعر السائد قبل اندلاع الحرب، وهو 8500 جنيهاً للطن، ولم ينفذ حتى الآن، حيث يتسلم أصحاب المخابز طن الدقيق بمبلغ 11 ألف جنيه، بما حفزهم على زيادة سعر الرغيف بنسبة 50 في المائة دفعة واحدة الأسبوع الماضي.
وتجاهلت الحكومة التصريحات التي أطلقتها الشهر الماضي، أنها بصدد رفع أسعار الخبز المدعم نهاية مارس الحالي.
وأكد صاحب مخبز خاص لـ "العربي الجديد" اضطراره لرفع سعر بيع الخبز، والمعجنات، لقيام الحكومة برفع أسعار الوقود، وبيع الدقيق بالأسعار العالمية، أو من المزارعين الذين يعانون من زيادة كل مدخلات الإنتاج والنقل، ويخشون من ألا يتمكنوا من توفير الأموال أو مصادر الائتمان التي تساعدهم على زارعة المحاصيل، الموسم المقبل.