تستعد أوروبا لعصر جديد من العلاقة التجارية والمالية مع الولايات المتحدة، مع تولي الرئيس المنتخب دونالد ترامب مقاليد الحكم، إذ من المتوقع أن تؤدي سياسات ترامب بشأن التجارة والتكنولوجيا وأوكرانيا وتغير المناخ إلى تجميد الاستثمار وعرقلة النمو في أوروبا التي تعاني بالأساس من صعوبات اقتصادية كبيرة.
ومن شأن خوض الولايات المتحدة، أكبر شريك تجاري وأقرب حليف للاتحاد الأوروبي وبريطانيا، حرب رسوم جمركية ضد أوروبا، أن يضرب الصناعات الكبرى مثل السيارات والأدوية والآلات في منطقة اليورو تحديداً ويقوض اقتصادها وماليتها بشكل كبير، بينما هي بحاجة ماسة إلى تعزيز النمو وتعظيم مواردها المالية في وقت تسعى إلى زيادة الإنفاق العسكري في ظل المخاوف من روسيا والشكوك بشأن ضمانات أميركا خلال ولاية ترامب الثانية.
كما تجد أوروبا نفسها في حيرة بالغة، إذ إن ترامب الأكثر تشدداً تجاه الصين قد يضغط على أوروبا لاختيار جانب أو مواجهة الانتقام. وقال كارستن برزيسكي، كبير خبراء الاقتصاد في بنك "آي إن جي" (ING) الهولندي لصحيفة نيويورك تايمز، يوم الثلاثاء: "لقد تحقق أسوأ كابوس اقتصادي في أوروبا"، محذرا من أن التطورات قد تدفع منطقة اليورو إلى "ركود كامل" العام المقبل 2025.
أوروبا حائرة بين نبذ الصين أو الانتقام الأميركي
ويشعر القادة بالحيرة بين استرضاء الصين أو مواجهتها. فقد صوتت الحكومة الألمانية، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ضد خطة الاتحاد الأوروبي لفرض رسوم جمركية تصل إلى 45% على السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين. وامتنعت دول أخرى مثل إسبانيا عن التصويت، بينما وافقت الأغلبية. ورداً على ذلك، فرضت الصين رسوماً جمركية جديدة على البراندي الأوروبي (مشروب كحولي)، والذي يأتي معظمه من فرنسا.
والرسوم الجمركية المتبادلة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من شأنها أن تزيد من قتامة آفاق صناعة السيارات، إذ إن الولايات المتحدة، أكبر سوق للسيارات المصدرة من ألمانيا، حيث تمثل ما يقرب من 13% من 3.1 ملايين سيارة باعتها ألمانيا في الخارج في عام 2023.
وقد يكون حديث ترامب خلال الحملة الانتخابية عن جعل الاتحاد الأوروبي "يدفع ثمناً باهظاً" لعدم شراء ما يكفي من الواردات الأميركية وفرض تعريفات جمركية شاملة بنسبة 10% أو 20% نقطة انطلاق للضغط على أوروبا ودفعها لمفاوضات تقدم من خلالها تنازلات تجارية كبيرة لواشنطن. وستطاول الرسوم الجمركية الأميركية قطاعات أخرى وستؤثر على اقتصادات أوروبية غير ألمانيا، مثل قطاعات الأغذية والنبيذ والجبن واللؤلؤ والمواد الكيميائية والمفاعلات النووية والأواني الزجاجية والأحذية والمزيد في أكثر من عشرين دولة.
وحذرت لويزا سانتوس، نائبة مدير "BusinessEurope"، وهي مجموعة ضغط تمثل آلاف الشركات، من أن التعريفات الجمركية سترفع التكاليف وتعوق الاستثمار. وقالت عن التعريفات الجمركية: "ما زلنا نأمل أنه بسبب أهمية العلاقة الاقتصادية، سيتم إعادة النظر فيها ولن نسمح بها". وبلغ الاستثمار المباشر من الاتحاد الأوروبي في الولايات المتحدة 2.4 تريليون دولار في عام 2022، مما أدى بدوره إلى خلق أكثر من 3.4 ملايين وظيفة أميركية، وفقًا للاتحاد الأوروبي. وحالياً، يبلغ متوسط التعريفة الجمركية الأميركية على الواردات الأوروبية ما بين 3% إلى 4%.
أوروبا خائفة من إغراق الصين أسواقها بالسلع
وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تشجع الرسوم الجمركية الأميركية الأعلى على الصين، وهو أحد وعود ترامب التجارية الأخرى، الشركات المصنعة الصينية على توسيع مبيعاتها خارج الولايات المتحدة، مما يزيد من المنافسة مع المنتجين الأوروبيين المنافسين.
وقد تتطلع الشركات الأوروبية إلى إنشاء أو توسيع الإنتاج في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن أي شركة مصنعة تستخدم مواد مستوردة من الصين ستجد التكاليف ترتفع بغض النظر عن مكان منشآتها. وقالت شركة "فيستاس" (Vistas)، وهي شركة دنماركية وصانعة توربينات الرياح الرائدة في العالم، إنها تزيد بالفعل من إنتاجها في مصنعيها الأميركيين في ولاية كولورادو، حيث جاء أكثر من 40% من طلباتها في الأميركيتين في الأشهر الثلاثة التي انتهت في سبتمبر/أيلول الماضي.
وقال هنريك أندرسن، الرئيس التنفيذي للشركة، في مكالمة مع محللي الصناعة، الأسبوع الماضي، وفق نيويورك تايمز: "لقد أصبح العالم مختلفاً من حيث التعريفات الجمركية". وأضاف أن "فيستاس" اضطرت بالفعل إلى التعامل مع التعريفات الجمركية التي فرضت خلال إدارة ترامب الأولى (من 2017 إلى 2021) وإدارة جو بايدن التي تقترب ولايتها من الانتهاء: "لهذا السبب تحاول استبعاد المزيد والمزيد من المكونات من أصل صيني عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة".
وتأتي هذه التشابكات المعقدة في وقت تشهد أوروبا اضطرابات سياسية، لا سيما في ألمانيا وفرنسا، أكبر اقتصادين في القارة. ولا يمكن أن تأتي التوترات المحتملة مع الولايات المتحدة في وقت أسوأ من هذا. وفي اليوم الذي جرى فيه إعلان فوز ترامب الكاسح في الانتخابات الرئاسية، قام المستشار الألماني أولاف شولتز بإقالة وزير المالية كريستيان ليندنر زعيم الحزب الديمقراطي الحر الليبرالي، ليعلن باقي الوزراء الليبراليين انسحابهم من الحكومة لتجد ألمانيا نفسها أمام أزمه سياسية ضخمة.
بالنسبة لألمانيا، التي تواجه بالفعل عاماً ثانياً من الركود، فإن التحديات الاقتصادية التي تفرضها إدارة ترامب حادة بشكل خاص. فقد تعثر اقتصاد ما توصف بقاطرة الاقتصاد الأوروبي بعد غزو روسيا لأوكرانيا في 2022 وتوقف تدفق الغاز الروسي الرخيص، وهو عنصر أساسي في نجاح البلد الصناعي بامتياز. وأعلنت شركة فولكسفاغن، أكبر شركة لصناعة السيارات في القارة وأكبر جهة توظيف في ألمانيا، مؤخراً أنها قد تغلق مصانعها وتسرح العمال. وقد أثرت المنافسة من السيارات الكهربائية الصينية بالفعل على مبيعات القطاع في الخارج وفي أوروبا.
مخاوف من حرب تجارية تؤثر على الاقتصاد العالمي
وقال ماريو دراجي، رئيس الوزراء الإيطالي السابق الذي أكمل مؤخراً تقريراً عن القدرة التنافسية الأوروبية إن هناك حاجة أكبر إلى زيادة الاستثمار العام السنوي بمقدار 900 مليار دولار لتمكين أوروبا من عكس اقتصادها الراكد والتنافس بشكل أفضل مع الولايات المتحدة والصين. وأضاف أن الأهم الآن هو مضاعفة الجهود لربط اقتصادات الكتلة بسوق رأسمال واحدة وإصدار ديون مشتركة.
بدوره، قال محافظ بنك فنلندا أولي رين، للمستثمرين في مؤتمر في لندن، الثلاثاء الماضي، إن أوروبا يجب أن تكون في وضع أفضل للاستجابة مقارنة بفترة ولاية ترامب الأولى، مضيفا أن الحواجز الأعلى أمام التجارة من شأنها أن يكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي، ويجب على أوروبا أن تكون مستعدة للتوترات المتزايدة.
وتابع رين، وهو عضو في مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، أن الهبوط الناعم لاقتصاد منطقة اليورو لا يزال سيناريو محتملا، لكن التوقعات غائمة بسبب عدم اليقين الجيوسياسي المتزايد. وهناك عنصر جديد في هذا عدم اليقين وهو السياسة التجارية لدونالد ترامب في ولايته الثانية رئيسا للولايات المتحدة. فقد أعرب ترامب عن رغبته في رفع التعريفات الجمركية على الواردات من مجموعة واسعة من البلدان.
وقال: "ما نعرفه هو أن الرسوم الجمركية الكبيرة على الواردات يمكن أن يكون لها عواقب سلبية على الاقتصاد العالمي". وأشار إلى أن التساؤلات حول مستقبل إحدى العلاقات التجارية الرئيسية في أوروبا تضاف إلى الشكوك الأخرى التي تواجه صناع السياسات، بما في ذلك حرب روسيا على أوكرانيا، والصراع في الشرق الأوسط، وطموحات الصين العسكرية والتكنولوجية. وأضاف أن "حرباً تجارية جديدة هي آخر ما نحتاجه وسط التنافسات الجيوسياسية اليوم، بخاصة بين الحلفاء... وإذا اندلعت حرب تجارية، فلا ينبغي لأوروبا أن تكون غير مستعدة".
الغاز المُسال على طاولة المفاوضات
وبينما قد تلعب أوروبا بورقة زيادة معدلات استيراد الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة في مساومة لإثناء ترامب عن فرض رسوم جمركية باهظة على مختلف السلع الأوروبية، يشير محللون إلى أن هذا الأمر يحمل مخاطر أكبر للأوربيين نظراً للتبعية الكبيرة للإمدادات الأميركية. وقال مسؤولون أوروبيون إن زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال الأميركي قد تلعب دوراً في فطام القارة عن اعتمادها المستمر على الواردات الروسية، في حين تساعد أيضاً في تهدئة مخاوف ترامب بشأن العجز التجاري.
وبالنسبة لشركات الطاقة الأميركية، فإن توسع السوق الأوروبية، إلى جانب وعد ترامب بإلغاء وقف تراخيص التصدير التي أصدرها بايدن، قد يفتح الباب أمام النمو السريع لهذه الشركات على مدى السنوات الأربع المقبلة. وقال مايكل سابيل، الرئيس التنفيذي لشركة "فينتشر غلوبال"، وهي شركة رائدة في تطوير الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة: "نتطلع إلى العمل مع إدارة ترامب القادمة لتعزيز دور أميركا باعتبارها المورد الرائد في العالم للغاز الطبيعي المسال النظيف".
وأضاف سابيل، وفق صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية: "في السنوات الأخيرة، تحركت أوروبا بسرعة لتدشين البنية الأساسية اللازمة لدعم زيادة تدفقات الغاز الطبيعي المسال إلى المنطقة، ومع الدعم السياسي اللازم واليقين التنظيمي، فإن الولايات المتحدة في وضع جيد لتلبية هذا الطلب طويل الأجل".
ويتوقع المسؤولون في قطاع الطاقة بالولايات المتحدة، أن جهود الاتحاد الأوروبي لفطام نفسه عن الغاز الروسي سوف تكون قوية تحت إدارة ترامب الثانية. وارتفعت أسعار أسهم شركات الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة، على مدار الأسبوع الماضي.
وذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، قبل أيام، أنه يمكن أن يكون الغاز الطبيعي المسال الأميركي المستفيد الرئيسي من محادثات التجارة بين واشنطن وبروكسل. وقالت بعد مكالمة مع ترامب: "ما زلنا نحصل على الكثير من الغاز الطبيعي المسال من روسيا، ولماذا لا نستبدله بالغاز الطبيعي المسال الأميركي، وهو أرخص بالنسبة لنا ويخفض أسعار الطاقة لدينا... هذا شيء يمكننا مناقشته أيضاً، حينما يتعلق الأمر بالعجز التجاري".
ومع مواجهة الاتحاد الأوروبي لانخفاض إمدادات الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا بعد غزوها أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، كثفت الكتلة وارداتها من الغاز الطبيعي المسال من جميع أنحاء العالم لتعويض النقص. وكانت الولايات المتحدة المورد الرئيسي، وهي تمثل الآن حوالي 40% من واردات الاتحاد الأوروبي من الوقود فائق التبريد، وفقًا لبيانات شركة "كيبلر" المتخصصة في تتبع شحنات الطاقة.
وفي أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، أعلن بايدن وفون ديرلاين عن اتفاق استراتيجي تهدف بموجبه الشركات الأوروبية إلى ضمان الطلب على الغاز الطبيعي المسال الأميركي في محاولة لدفع بناء قدرة تصديرية أكبر. لكن المحللين يشيرون إلى أن بروكسل لديها سلطات محدودة في الالتزام بواردات الغاز الطبيعي المسال الأميركي. وقالت ناتاشا فيلدينغ، رئيسة تسعير الغاز الأوروبي في وكالة "أرغوس" المتخصصة في شؤون الطاقة: "ما لم يحظر الاتحاد الأوروبي واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي بالكامل، وهو الأمر الذي يتعين على جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الموافقة عليه، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن للذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي أن يكون لها قدر كبير من النفوذ على الأماكن التي تشتري منها أوروبا الغاز الطبيعي المسال".
لكن فكرة الرضوخ للضغوط قد لا تحظى بقبول البعض في دول الاتحاد ما يزيد من هوة الخلافات بين الدول الأعضاء. وقبل أيام قالت جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، خلال اجتماع للاتحاد الأوروبي "لا تسألوا ماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تفعل لكم، بل اسألوا ماذا ينبغي لأوروبا أن تفعل لنفسها... يتعين على أوروبا أن تجد التوازن... نحن نعلم ما يتعين علينا القيام به". لكن، هل الاتحاد الأوروبي قادر على تحويل هذه المشاعر إلى حقيقة، يظل هذا السؤال بلا إجابة نظراً للتشرذم السياسي المتزايد داخل أوروبا، وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة.