تتوالى أخبار إفلاس الدول وتعثرها في سداد التزاماتها وآخرها إثيوبيا، وذلك على الرغم مما أعلنه البنك الدولي في تقريره الأخير أن "البلدان النامية أنفقت مستوى قياسيًا بلغ 443.5 مليار دولار لخدمة ديونها العامة الخارجية"، وأن مدفوعات خدمة الدين زادت بنسبة 5% في العام الماضي عن عام 2022 بالنسبة إلى جميع البلدان النامية، وأن أشد البلدان فقراً، وعددها 75 بلدًا، دفعت مستوى قياسيًا بلغ 88.9 مليار دولار من تكاليف خدمة الدين في عام 2022.
وتشكل أزمة ارتفاع تكاليف الديون الخارجية معضلة كبرى للدول الفقيرة التي تضطر إلى تحويل مواردها المالية الشحيحة بعيدًا عن الاحتياجات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية الأساسية وإعانة الطبقات الأكثر فقراً وغيرها من الاحتياجات المؤجلة إلى أجل غير مسمى تحت وطأة السداد.
وقد دخلت إثيوبيا رسمياً منطقة التخلف عن السداد، لتصبح الدولة الأفريقية الثالثة إفلاساً، بعد غانا وزامبيا، وذلك بعد فشلها في سداد 33 مليون دولار مستحقة على سنداتها الحكومية الدولية يوم 11 ديسمبر/كانون الأول، ومرور فترة السماح الفنية والمقدرة بحوالى 14 يوماً، نُصَّ عليها في اتفاقية السندات البالغة مليار دولار.
تداعيات كورونا والحرب الأهلية
سبّبت الحرب الأهلية الإثيوبية خسائر بشرية واقتصادية فادحة تعاضدت مع تداعيات أزمة كورونا في انعكاسات سلبية كبيرة على مؤشرات الاقتصاد الكلى الإثيوبي الذي كان يعاني أساساً من العديد من المشكلات الاقتصادية، في مقدمتها الفقر والبطالة والتضخم.
وتشير دراسة هامة صدرت عن معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا إلى أن أحد أهم أسباب نشوب الحرب كان عدم المساواة الاقتصادية بين الأقاليم وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، بالإضافة إلى الصراع على الهيكل الاتحادي بين الجماعات العرقية، وهو الأمر الذي يؤشر على احتمال نشوب صراع جديد في أي وقت، خصوصاً في ظل استمرار تلك الأسباب، بل وتزايد حدتها في الآونة الأخيرة.
ولا يزال المواطن الإثيوبي فريسة لمعدلات التضخم المرتفعة، وذلك على الرغم من السياسات النقدية المتشددة التي انتهجها البنك المركزي خلال العام الماضي لمواجهة الأزمة المالية المتفاقمة.
ونتيجة لأزمة البطالة المرتفعة، فقد جعلت الحكومة خلق فرصة عمل محور برنامج الإصلاح الاقتصادي الرئيسي، وقد ارتفع معدل البطالة في إثيوبيا من 3.2% عام 2019 إلى 4.2% عام 2020 بفعل أزمة كورونا والحرب الأهلية، ونجحت الإجراءات الحكومية في خفضه إلى 3.9% بنهاية 2022، وذلك في بلد أكثر من 60% من سكانه يقع في إطار قوة العمل.
وعلى الرغم من الاستثمارات الأجنبية الكبيرة الوافدة نحو الاقتصاد الإثيوبي، إلا أن ضعف التعليم والمهارات وغياب التكوين وبرامج التدريب يجعلان التغلب على تلك المعدلات المرتفعة أمراً بعيد المنال، خصوصاً أن المؤشرات الرسمية لا تأخذ باعتبارها البطالة المقنعة المنتشرة في البلاد التي يسيطر القطاع الزراعي على النسبة الكبرى من ناتجها المحلي.
وتشير آخر التقارير المنشورة عن أعداد الفقراء في إثيوبيا إلى أن معدل الفقر قد انخفض بشكل ملحوظ على الرغم من زيادة عدد السكان، حيث انخفض معدل الفقر على المستوى الوطني إلى 23.5% خلال الفترة 2015/2016 من 29.6% في 2010/2011، وذلك يعني أنه حتى في حال صحة الأرقام، فإن ما يزيد على 20 مليون إثيوبي قابعون تحت خط الفقر، ولا شك أن هذا الرقم قد تزايد بفعل الحرب الأهلية وأزمة كورونا.
وبلغت فاتورة الحرب الأهلية في إثيوبيا حوالى 950 مليون دولار، بحسب مؤسسة "تريدنغ إيكونوميكس"، دون احتساب تكلفة الخسائر المادية التي تشمل المطارات والطرق، والبنية التحتية التي دُمرت بالكامل في بعض أقاليم البلاد، وخصوصاً في داخل إقليم تيغراي الواقع شماليّ البلاد. وسبّبت الحرب كذلك انخفاض معدل النمو إلى 5.6% عام 2021، وهو أقل معدل تبلغه البلاد خلال عقدين، بحسب إحصاءات البنك الدولي.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تلقى الاقتصاد ضربة أخرى عندما سحب المانحون الأجانب مليارات الدولارات من الدعم المالي، كذلك فرضت الولايات المتحدة عقوبات على البلاد كي تدفعها إلى إنهاء الحرب الأهلية، وعلّق الاتحاد الأوروبي مساعدات تُقدر بنحو 88 مليون يورو، وكل ذلك سبّب انهيار العملة المحلية وارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى أعلى مستوى لها في 10 سنوات، وأجبرت الحكومة على خفض الإنفاق العام الحكومي، لحل مشكلات أخرى متفاقمة، مثل العجز المتزايد في الحساب الجاري وارتفاع الديون.
وكان من الطبيعي أن يكون إعلان التعثر في السداد النتيجة المنطقية لكل تلك التداعيات.
الدائنون لم يرحموا المواطن
يضع التخلف عن السداد إثيوبيا في موقف اقتصادي صعب، الأمر الذي يتطلب اتخاذ تدابير استراتيجية لمعالجة عدم استقرارها المالي والتغلب على تعقيدات إعادة هيكلة الديون، وكلها تدابير تضيف المزيد من الأعباء على الفقراء في إثيوبيا.
ولذلك فقد بادرت الحكومة الإثيوبية بطلب تخفيف الأعباء والتفاوض حول جدولة الديون، لكن هذه المبادرات واجهت الفشل تحت ذريعة الحرب الأهلية.
والحقيقة أن فخ الديون الخارجية نصب بحرفية شديدة للإجهاز على مقدرات الدول الفقيرة، ولا يوجد فيه مجال للعطف أو الرحمة.
سعت إثيوبيا في البداية لتخفيف عبء الديون، حيث تقدمت بطلب لإعادة التفاوض على الديون بموجب الإطار المشترك الذي أنشأته دول مجموعة العشرين استجابةً لوباء كوفيد-19 في أوائل عام 2021.
وأدت الحرب الأهلية إلى تأخير التقدم في المفاوضات، لكن في نوفمبر من العام نفسه، وفي مواجهة استنفاد احتياطيات النقد الأجنبي وارتفاع التضخم، وافق الدائنون الحكوميون في القطاع الرسمي لإثيوبيا، بما في ذلك الصين، على اتفاق تعليق خدمة الديون.
في الثامن من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي انهارت المفاوضات مع صناديق التقاعد وغيرها من الدائنين من القطاع الخاص، ولحق ذلك تخفيض وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز غلوبال تصنيف السندات إلى "التخلف عن السداد".
وأكدت الوكالة أن إثيوبيا دخلت حالة تقصير انتقائي، وهو الوضع الذي يتخلف فيه المدين انتقائياً عن قضية أو فئة معينة من الالتزامات مع الاستمرار في سداد المدفوعات في الوقت المناسب بشأن قضايا أو فئات أخرى.
ومن الجدير بالملاحظة أن الرقم الذي عجزت إثيوبيا عن سداده هو 33 مليون دولار فقط، وهو الأمر الذي يثير التساؤل عمّا ستفعل إثيوبيا في بقية ديونها البالغة 27 مليار دولار، خصوصاً في ظل صادرات شديدة المحدودية تبلغ حوالى 4 مليار دولار فقط، ويغلب عليها الطابع الزراعي، بالإضافة إلى ضعف شديد في موارد النقد الأجنبي الأخرى، ويشير ذلك بوضوح إلى أن الاقتصاد الإثيوبي وقع تحت مقصلة الدائنين التي لن ترحم مواطنيه الفقراء.
لا شك أن فخ الديون الذي نصبته قوى الإمبريالية العالمية سقطت فيه كل الدول الفقيرة، وهو الفخ الذي يؤكد استمرار تخبط شعوب تلك الدول في الدوائر الخبيثة للفقر والبطالة والجهل والمرض، ويقضي على أي أمل بتحسن تلك الأوضاع في المستقبل القريب، أو حتى في الأجل المتوسط.
وذلك يدفع إلى أن تشغل قضية الديون بؤرة الاهتمام العالمي، ولن يكون كثيراً على الدائنين من الدول المتقدمة أن تؤجل السداد لمدة خمس سنوات فقط حتى تتمكن الدول الفقيرة من التقاط أنفاسها الاقتصادية، ومن ثم تمكنها من الوفاء بالتزاماتها.