ما إن تقترب الذكرى السنوية لثورة 25 يناير حتى تتم إهالة التراب عليها من قبل رموز السلطة الحاكمة، فالثورة، وحسب ما يردده هؤلاء، كبّدت مصر خسائر تجاوزت مئات المليارات من الدولارات، والثورة أيضا وراء انهيار الاقتصاد المصري قبل 11 سنة، وأنها تقف خلف تهاوي احتياطي البلاد من النقد الأجنبي وأنشطة رئيسية مثل السياحة والصادرات والاستثمارات قبل عقد من الزمان.
والثورة، حسب هؤلاء، وراء كلّ أزمة معيشية لحقت بالمواطن في السنوات الماضية، وخلف انقطاعات الكهرباء والمياه وغلاء الغاز المنزلي، وهروب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية على حدّ سواء، وتقف أيضا خلف انهيارات البورصة وسوق المال في العام 2011.
إيرادات الصادرات وقناة السويس وتحويلات المغتربين زادت في العام 2011 حسب الأرقام الرسمية
ولم يبق سوى أن يزعم هؤلاء أنّ الثورة كانت وراء خسارة مصر مليارات الدولارات بسبب تصدير الغاز بثمن بخس لدولة الاحتلال، وإبرام اتفاقية تم بموجبها نهب دولة الاحتلال الغاز المصري بتراب الفلوس في صفقة مشؤومة جرى توقيعها في فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وأنّها وراء تفاقم ظاهرة المال السياسي والفساد المالي، وأدت إلى دحرجة ثروة البلاد في حجر مجموعة قليلة من رجال أعمال مبارك القريبين من نجله الذي كان طامحا في وراثة العرش.
وأنّها، أي ثورة 25 يناير، كانت وراء تفشي غلاء الأسعار والفساد والاحتكارات وفيروس سي والفقر والبطالة والهجرة غير المشروعة وهروب الخبرات إلى الخارج والعشوائيات ونهب المال العام، وبيع الشركات الحكومية للأجانب والمستثمرين القريبين من السلطة الحاكمة بتراب الفلوس، وأنّها وراء تشريد مئات الآلاف من العمال عبر نظام المعاش المبكر والفصل التعسفي وتصفية المصانع بعد بيع أراضيها وأصولها.
ولأنّ المواطن المصري ليس خبيراً في الأرقام، وليس في مقدرته الوصول للبيانات السليمة سواء كانت رسمية أو من مصادر محايدة، فهو قد يصدق ما يقذفه إليه الإعلام الرسمي من تصريحات لكبار المسؤولين حول كوراث الثورة المزعومة والتي تخرج علينا في مثل هذه الأيام من كلّ عام، علماً بأن هذه التصريحات تستند إلى أرقام مزيفة ومبالغ فيها وبعيدة عن الواقع في محاولة لتخويف الناس من تكرار الثورة، وتحميل 25 يناير كوارث وخسائر هي بريئة من معظمها.
مثلاً يقال إنّ خسائر الاقتصاد المصري تجاوزت 400 مليار دولار في عام الثورة، رغم أنّ حجم الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي خلال عام كامل هو 2011 يقل كثيراً عن هذا الرقم، ولا يصل حتى لنحو 50% عن رقم الخسائر المزعوم.
مبالغات في تقديرات خسائر الاقتصاد المصري في عام الثورة رغم تأكيد الأرقام الرسمية على حدوث تحسن في المؤشرات
وفي حال صدق هذه المزاعم وخسارة الاقتصاد 400 مليار دولار في عام الثورة فإنّ هذا يعني ببساطة حدوث شلل كامل في الدولة والأنشطة الاقتصادية على مدى عام كامل سواء على مستوى الجهاز الإداري للدولة والمصانع والمزارع والمتاجر وغيرها، وأنّ عاملاً أو موظفاً لم يذهب لعمله طوال العام، وأنّ المصانع والمؤسسات الحكومية وشركات الإنتاج أغلقت أبوابها طوال عام.
وأنّ قناة السويس لم تدرّ دولاراً واحداً، وأنّ المصريين المغتربين لم يحولوا سنتاً واحداً لذويهم في الداخل على مدى عام، وأنّ صادرات مصر وحصيلة الاقتصاد في عام كامل بلغت صفرا، رغم أنّ الأرقام الرسمية تقل عكس ذلك.
وحسب زعم هؤلاء فإنّ الصادرات المصرية خسرت المليارات في عام الثورة، رغم أنّ بيانات وزارة التجارة والصناعة الرسمية، تؤكد أنّ قيمة تلك الصادرات بلغت 130.7 مليار جنيه (21.6 مليار دولار) في 2011، مقابل نحو 110.2 مليارات جنيه (18.3 مليار دولار) في 2010، أي أنها زادت بنحو 3.3 مليارات دولار ولم تتراجع.
والبورصة، بحسب المزاعم أيضاً، خسر رأسمالها السوقي 194 مليار جنيه، أي ما يعادل حينها 33.4 مليار دولار، رغم أنّ القاصي والداني يعرف أنّ هذه خسائر ورقية وغير محققة على أرض الواقع، وفي كلّ الأحوال فإنّ تلك الخسائر لو حدثت يتحملها رجال الأعمال المستثمرون في الأسهم ولا يتحملها الاقتصاد أو الموازنة العامة.
رقم آخر يجري تضخيمه وهو أنّ الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي خسر قرابة 20 مليار دولار في العام 2011، رغم أنّ جزءاً مهماً من هذه الأموال ذهبت لمهام تقليدية منها تغطية كلفة الواردات وأعباء الديون ودعم استقرار سوق الصرف.
هنا تقتضي الأمانة أن نقول إن الالتزامات والضغوط على الاحتياطي الأجنبي كانت كبيرة في عام 2011 بسبب عدة عوامل منها هروب الأموال الساخنة، وتراجع إيرادات السياحة بنحو مليار دولار، وتهريب بعض كبار رجال الأعمال للأموال إلى الخارج، وهو ما رصدناه في وقت لاحق في بنوك سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة والإمارات وغيرها.
هناك خسائر لا يمكن تحميلها للاقتصاد مثل إغلاق رجال أعمال محسوبين على نظام مبارك مصانعهم وتشريد العمال نكاية في الثورة
وهناك خسائر لا يمكن تحميلها للاقتصاد مثل إغلاق رجال أعمال محسوبين على نظام مبارك مصانعهم وتشريد العمال نكاية في الثورة، وهناك من تعمد عدم سداد الرواتب والأجور لإثارة حنق العمال على الثوار والثورة واظهارها بمظر المتسبب في خراب البيوت.
خسائر عام الثورة الحقيقي لا تكمن في المؤشرات الاقتصادية فمعظمها تحسن خاصة قطاعات رئيسية مثل الصادرات وتحويلات العاملين في الخارج وقناة السويس التي زادت إيراداتها، لكن تكمن في الأموال التي هربها رجال أعمال مبارك عبر المطارات، أو في كراتين وشنط في الطائرات الخاصة، أو عبر البنوك التي لم تكن خاضعة لرقابة البنك المركزي في ذلك الوقت، وتكمن أيضا في الضغوط التي مارسها هؤلاء المستثمرين على العمال وعدم سداد رواتبهم ومستحقاتهم أو فصلهم تعسفيا بزعم أنّ الثورة خربت بيوتهم.
لا أحد ينكر خسارة الاقتصاد المصري في عام الثورة، وأنّ هذا وضع طبيعي، ففي ظلّ الاضطرابات والقلاقل السياسية تهرب الأموال وتتعثر المشروعات خاصة مع ضخامة الاحتجاجات الفئوية التي شهدتها البلاد في ذلك العام، لكنّ نسبة من هذه الأموال عادت بعد ذلك في العام 2012 مثلاً، والسياحة تحسنت في العام التالي 2012 مباشرة حسب الأرقام الرسمية.
لكن في المقابل، فإنّ الصورة ليست سوداء كما يحاول أن يرسمها المناوئون للثورة، فمصر عرفت في عام الثورة تحسناً ملحوظاً في إيرادات النقد الأجنبي من أنشطة رئيسية مثل الصادرات وقناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج، والعالم عرف أكثر المنتج المصري والدليل زيادة الصادرات بدرجة ملحوظة.
وحسب بيان صادر عن البنك المركزي المصري يوم 25 مارس 2012 فإن تحويلات المصريين العاملين بالخارج ارتفعت لمستوى تاريخي من 12.5 مليار دولار خلال 2010 إلى 14.3 مليار دولار خلال عام 2011.
وإن إيرادات قناة السويس شهدت زيادة من 4.8 مليار دولار إلى 5.2 مليار دولار بزيادة 456 مليون دولار، وتعد تلك العوامل الإيجابية هي التي ساهمت في الحد من تفاقم العجز الكلي في ميزان المدفوعات خلال 2011 وفق البيان.
تحويلات المصريين العاملين بالخارج ارتفعت لمستوى تاريخي من 12.5 مليار دولار في 2010 إلى 14.3 مليار دولار في 2011
وهناك أرقام إيجابية أخرى في عام 2011 واضحة للعيان وتم إعلانها من قبل مؤسسات الدولة خلال فترة حكم المجلس العسكري، لكن ينكرها فقط كلّ من يحاول الإساءة إلى أعظم ثورة في التاريخ الحديث.
ثورة 25 يناير التي أعادت الروح لملايين المصريين الباحثين عن العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة والدولة المدنية الحديثة وتحسين مستوى المعيشة.