وسط "نظام عالمي" في "طور التشكيل"، تتريّث حكومة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، قبل العودة إلى طاولة "مفاوضات الملف النووي"، التي من المتوقع أن تجرى قريباً في فيينا عبر وسطاء أوروبيين.
وكانت الحكومة الإيرانية قد أكدت، على لسان وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، أن المفاوضات النووية مع مجموعة "4+1" ستبدأ من جديد قريباً، لكن يبدو أن إيران ترغب في ترتيب علاقاتها مع دول الجوار، ودراسة البدائل الاقتصادية المتاحة لديها، في مواجهة احتمال تشديد الحظر الاقتصادي المقبل، في حال رفضها للشروط الأميركية الجديدة.
وحتى الآن، هناك تباين كبير بين طهران والولايات المتحدة، حول ما ترغب فيه كل منهما من إعادة التفاوض حول "البرنامج النووي"، إذ بينما تطالب الإدارة الأميركية بتوسيع الاتفاق ليشمل شروطاً جديدة، من بينها الصواريخ البالستية وعلاقات إيران مع جيرانها، ترفض الحكومة الإيرانية هذه الشروط وتدعو الولايات المتحدة وشركاء الاتفاق النووي إلى رفع الحظر الأميركي أولاً، والعودة إلى "الاتفاق الأصلي" الذي وقّعته مع مجموعة "5+1" في عام 2015.
وحتى نهاية الجولة السادسة التي جرت في فيينا بين الطرفين قبل انتخاب رئيسي، حالت الفجوة الواسعة في المطالب بين الولايات المتحدة وإيران دون تحقيق تقدّم يذكر في المفاوضات.
من جانبه، يرفض رئيسي التفاوض حول "برنامج الصواريخ البالستية"، كما تقول إيران إن برنامجها النووي "برنامج سلمي". لكن الولايات المتحدة وحلفاءها، من جانبهم، يرون أن البرنامج النووي وصل إلى مرحلة متقدمة من التخصيب ويثير "قلقاً كبيراً".
وحتى الآن، تعوّل الولايات المتحدة على جدوى العقوبات الاقتصادية في الضغط على طهران، وربما حدوث ثورة شعبية ضد النظام الإيراني في طهران، تقود نتيجتها إلى نشوء نظام علماني في البلاد يتوافق مع الغرب ويدخل في علاقات مباشرة مع إسرائيل، مثلما كان حال نظام الشاه محمد رضا بهلوي قبل ثورة الخميني.
وعانى الشعب الإيراني، خلال السنوات الماضية، ضغوطاً معيشية حادة، بسبب انهيار سعر صرف الريال الإيراني وارتفاع التضخم والغلاء الشديد في السلع الأساسية. لكنّ هذه الضغوط لم تسقط النظام الإيراني كما كانت ترغب واشنطن، وذلك لوجود البدائل المتاحة للحكومات الإيرانية المتعاقبة لمقاومة الحظر الاقتصادي الأميركي، وقبله العقوبات الأممية.
عانى الشعب الإيراني، خلال السنوات الماضية، ضغوطاً معيشية حادة، بسبب انهيار سعر الريال وارتفاع التضخم والغلاء الشديد في السلع الأساسية
ويرى الخبير البريطاني سايمون تيسدال، في تحليل بصحيفة "ذا غارديان"، أن الدول الغربية ترغب في تسوية الملف الإيراني لأسباب تجارية واقتصادية بحتة، ولكن بالنسبة لحكومة رئيسي فإن "مقايضة تخفيف الحظر الاقتصادي والتجاري لا تمثل أولوية".
وترغب الحكومات الأوروبية التي تعاني شركاتها من ضيق الأسواق المحلية في كسب عقود إعادة بناء الاقتصاد الإيراني الضخمة، في أعقاب رفع الحظر التجاري والنفطي على إيران.
في ذات الصدد، يرى خبراء في الشأن الإيراني أن الخسائر الباهظة التي تكبدتها إيران من الحظر النفطي ربما لن تجبر طهران على قبول الشروط الأميركية.
من جانبها، ترى حكومة إبراهيم رئيسي أن الاقتصاد الإيراني يمكنه التعايش مع الحظر النفطي والمالي والاقتصادي، حتى في حال تشديده.
في هذا الشأن، يرى الخبير صاحب صديقي، في تحليل بنشرة "فورن بوليسي" الأميركية، أنّ إدارة الرئيس رئيسي تركز على استراتيجية مقاومة الحظر الاقتصادي، عبر تعزيز علاقاتها مع دول الجوار، وتوسيع التعاون الاقتصادي مع دول كبرى مثل الصين وروسيا. ويقول في تحليله إن حكومة رئيسي تعتقد أن "الولايات المتحدة عازمة على احتواء إيران على أية حال، وستجد دائماً أسباباً للحفاظ على الحظر الاقتصادي على طهران، حتى في حال إيفاء إيران بكل الشروط المطلوبة منها".
ومنذ خروج إدارة الرئيس دونالد ترامب من "الاتفاق النووي"، وضعت طهران عدة بدائل للتعامل مع التداعيات السالبة للحظر.
وتشكك دوائر غربية في نوايا طهران من التفاوض النووي، ويرون أنها تسعى إلى كسب الوقت لنضوج برنامجها النووي، وسط مخاوفها المتصاعدة من احتمال حدوث هجوم إسرائيلي مدمّر على إيران.
ومن بين البدائل التي يستخدمها النظام الإيراني ونجح في مقاومة الحظر الاقتصادي حتى الآن، مقايضة النفط ومشتقاته بالسلع الأساسية التي يحتاجها السوق الإيراني. كما منحت طهران تسهيلات استثمارية واسعة لبكين، ضمن اتفاق استراتيجي لاستثمار الشركات الصينية 250 مليار دولار ولمدة 25 عاماً وقّعته مع الصين في العام الماضي. ويتضمن الاتفاق تطوير مشروعات النفط والغاز الطبيعي والبتروكيماويات ومقايضة السلع وقطع الغيار. وقال وزير النفط الإيراني، في 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إن إيران ترحب بالاستثمار الأجنبي في كافة مجالات الطاقة بالبلاد، ضمن صفقات "مقايضة النفط والمكثفات النفطية بالعقود التجارية والهندسية"، وذلك في إشارة إلى أن حكومة رئيسي لا ترغب في مقايضة "البرنامج النووي" بمكاسب اقتصادية.
ومن بين الأدوات التي أعلنت عنها الحكومة الإيرانية لمقاومة الحظر، التوسع في تجارة المشتقات البترولية بدلاً من بيع الخامات النفطية. وحسب ما نقلت "رويترز" الشهر الجاري، عن مصادر مقربة من وزارة النفط الإيرانية، فإنّ إنتاج إيران من النفط يتراوح بين مليونين و2.5 مليون برميل يومياً، تصدّر منها نحو 500 ألف برميل في شكل نفط خام، وهو ما يعني أنّ إيران تنشط في تجارة المشتقات البترولية والمكثفات رغم الحظر النفطي.
إيران استثمرت، خلال سنوات التواجد العسكري الأميركي في أفغانستان، في بناء شبكة من التجار في أفغانستان، بحسب مؤسسة "راند" الأميركية
كما تستفيد الحكومة الإيرانية حالياً من ارتفاع أسعار المكثفات النفطية والمشتقات البترولية في الحصول على مداخيل أكبر. وبالتالي تخفيف تداعيات العقوبات الأميركية.
كما تأمل الحكومة الإيرانية كذلك أن يتيح لها الانسحاب الأميركي من أفغانستان فرصة لتفادي الحظر النفطي وتنشيط تجارة المشتقات عبر شبكة التجار الأفغان الموالين لإيران في منطقة الهزارة والطاجيك، وبالتالي ربما زيادة كميات النفط والوقود المصدر إلى كل من الصين والهند ودول جنوب آسيا.
وكانت إيران قد استثمرت، خلال سنوات الغزو والتواجد العسكري الأميركي في أفغانستان، في بناء شبكة من التجار في أفغانستان، بحسب دراسة لمؤسسة "راند" الأميركية، وذلك ضمن توافق مع الخطط الأميركية الرامية إلى ضرب "تنظيم القاعدة" وخفض النفوذ السني في البلاد.
وإضافة إلى النفط، تصدّر إيران نحو 49 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى العراق، ضمن اتفاق لتوليد الطاقة الكهربائية في جنوب العراق، وهو اتفاق يحظى بالموافقة الأميركية.
ويرى محللون أن توفر هذه البدائل يقلق الولايات المتحدة، ويجعل حكومة رئيسي ليست في وضع مستعجل للرضوخ للضغوط الأميركية.
ويربط محللون بين الهجوم السيبراني الذي تعرضت له إيران يوم الثلاثاء، والتحذيرات التي صدرت في كل من واشنطن ولندن للحكومة الإيرانية من العواقب الخطيرة التي ستتعرض لها البلاد في حال أخرت عودتها إلى طاولة المفاوضات الخاصة بالبرنامج النووي.
في هذا الشأن، يرى وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية، جيمس كليفرلي، أنّ البرنامج النووي الإيراني وصل إلى مرحلة متقدمة في التخصيب وأنه بات مقلقاً.
من جانبها، حذرت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، الحكومة الإيرانية، من مواجهة المزيد من الحظر إذا لم توافق على "المفاوضات النووية".
أما المبعوث الأميركي الخاص بشأن إيران، روبرت مالي، فقال إن "المفاوضات النووية مع إيران لن تظل مفتوحة للأبد، وأن واشنطن تملك خيارات أخرى لمنع إيران من حيازة السلاح النووي، وستستخدم هذه الخيارات إذا لزم الأمر".
وفي مقابل هذا التهديد، فإن طهران تقول إن برنامجها النووي برنامج سلمي وليس مخصصاً لصناعة القنبلة النووية. ويذكر أن الوفد الإيراني في مفاوضات فيينا يقوده نائب وزير الخارجية، علي باقري، الذي تصفه الدول الغربية بالتشدد.