انحسرت عادات اكتناز الذهب الذي كان يشكل واحداً من أهم وسائل الادخار والتحوط الأسري في تونس، وسط غلاء المعيشة وارتفاع سعر المعدن الأصفر إلى مستويات قياسية خلال السنوات الأخيرة، ما تسبب في ركود أسواق الصاغة التي كانت تعتمد كثيرا على الطبقة المتوسطة.
واكتناز الذهب كأداة ادخار عادة ضاربة في القدم لدى التونسيين، حيث كانت الأسر تتحوط بالمعدن الأصفر الذي يستعمل للزينة ويجري اللجوء إليه في زمن الأزمات لتمويل مشاريع عائلية على غرار اقتناء العقارات السكنية أو الزراعية، غير أن الحال تبدل كثيراً في السنوات الأخيرة.
يقول رئيس غرفة تجار المصوغ حاتم بن يوسف لـ"العربي الجديد" إن معاملات سوق الذهب سجلت تراجعاً لافتاً في الآونة الأخيرة، لتصل نسبة الهبوط إلى أكثر من 50% خلال السنوات العشر الماضية.
ويؤكد بن يوسف، حصول تغيرات كبيرة في علاقة التونسيين بالمعدن النفيس، حيث تلاشت عادات التحوط والادخار عبر اكتنازه رغم ارتفاع سعره بما يزيد عن 60% خلال تلك السنوات، إذ لم تسجل السوق أي تحسن في تداول المعادن الثمينة، بينما تهاوت المبيعات إلى أدنى مستوياتها في فترة ما بعد جائحة كورونا.
ويضيف أن "مواسم شراء الذهب لدى التونسيين كانت مرتبطة بشكل وثيق بالأنشطة الزراعية، حيث يتحرك الطلب لأغراض الزينة أو الاكتناز في فصل الصيف بعد حصاد محصول الحبوب، وغالبا ما يكون المشترين في تلك الفترة من سكان مناطق الشمال الغربي، في المقابل يشترى سكان الجنوب الذهب بعد جمع محاصيل الحمضيات".
ويتابع رئيس غرفة تجار المصوغ، أن الذهب ظل من أهم أدوات الادخار نظرا لقيمته الثابتة التي لا تتأثر بعوامل التضخم التي تؤدي إلى تآكل المدخرات المالية، حيث يتراوح سعر الغرام الواحد عيار 18 قيراطا حاليا بين 170 و180 ديناراً (54.3 دولارا و57.5 دولارا)، بينما كان لا يتعدى 80 دينارا قبل عشر سنوات، ما يزيد في قيمة المصوغ المكتنز لدى الأفراد.
ويقول إنه بجانب تراجع مستويات الادخار من قبل الطبقات المتوسطة في ظل الصعوبات المعيشية، فإن المقتدرين مالياً عزفوا عن شراء الذهب بغاية الادخار أيضا في ظل الخوف من المساءلة حول مصادر الثروة.
وتواجه تونس مخاطر التضخّم الاقتصادي على نطاق واسع الذي بلغ مستويات قياسية لم تسجلها البلاد منذ ثلاثة عقود ببلوغه 10.2% في يناير/كانون الثاني الماضي وفق بيانات صادرة أخيراً عن معهد الإحصاء الحكومي.
وتخضع سلوكيات المدخرين في تونس لعوامل وثيقة الصلة بالاستهلاك وتطور المداخيل، فضلا عن تدابير أخرى على غرار اتقاء الأزمات والهزات النقدية والمالية التي تخفض من الأموال المرصودة للادخار بشكل ملموس، وفق دراسات اقتصادية.
ويمثل ادخار الأفراد في تونس نحو 10% من الناتج الإجمالي المقدر بأكثر 40 مليار دولار، بينما تغيب الأرقام الرسمية عن حجم وقيمة الادخار في المعادن الثمينة.
ويقول الخبير الاقتصادي ووزير المالية السابق سليم بسباس لـ"العربي الجديد" إن "شراء العملات الأجنبية من السوق السوداء واقتناء العقارات من أبرز الملاذات الآمنة للادخار في تونس.
ويفسر بسباس تراجع الادخار عبر شراء الذهب والمعادن النفيسة بطبيعة تجارة الذهب في تونس وضعف هذه السوق مقارنة بسوق التطوير العقاري أو سوق العملة الصعبة التي يهيمن عليها الناشطون في الاقتصاد الموازي.
وعلى امتداد عقود من الزمن استعملت الأسر مدخرات الذهب في تمويل مشاريع إنتاجية في قطاعات زراعية وتجارية وتعليم الأبناء ما ساهم في زيادة النمو وتحسين مستوى عيش العائلات.
ويقول الخبير الاقتصادي خالد النوري لـ"العربي الجديد" إن معدل التضخم خلال السنوات العشر الماضية تسبب في تراجع الادخار بنسبة 50%، مرجحا أن يتسبب صعوده المتواصل في انحسار الادخار بنسبة تتراوح بين 1% و2% سنوياً مستقبلاً.
ويضيف النوري، أن فقدان القدرة الشرائية يوجه كل دخول التونسيين نحو الاستهلاك، مؤكدا أن التحوط والادخار بالأموال أو المعادن الثمينة ظاهرة اقتصادية واجتماعية تسمح بتكوين احتياطي يفيد الاستثمار والإنتاج والتشغيل كما يتيح خلق الثروة الثابتة ويزيد كمية العمل المنتج إضافة إلى دعم النمو.
وتقول تقارير دولية حول أهمية التحوط بالذهب أنه تاريخيا تُعد فترات التضخم المرتفع إيجابية بالنسبة لسعر الذهب، حيث يميل المستثمرون إلى الهروب من العملات الورقية نحو المعدن الأصفر.