في عصرٍ تسيطر عليه الماديات، وبعد عام شهد ظهور جائحة لم تكن في الحسبان، تعد بلا أدنى مبالغة قوة عظمى جديدة، اجتاحت بلدان العالم وقتلت من قتلت وعطلت عن العمل من عطلت، فزادت نسبة كبيرة من الفقراء فقراً بينما أضافت إلى ثروات مليارديرات العالم ما يقرب من تريليوني دولار في أقل من عام، أصبح حلم الاستقرار المادي والثراء السريع يسيطر على أغلب الناس، بينما غابت روح الرومانسية تماماً عن البعض، حتى في مناسبة ما يطلق عليه عيد الحب، الذي اعتاد كثيرون الاحتفال به كل عام في مثل هذا الأسبوع.
لم أحتفل بهذا اليوم في أي عامٍ مضى، وكل ما يأتي إلى ذاكرتي فيه يرجع إلى أزمات المرور التي كانت تحدث مساء هذا اليوم من كل عام في شوارع حي مصر الجديدة بالعاصمة المصرية، حيث يندفع المحبون نحو محلات الزهور والشيكولاتة والهدايا الأخرى، لإهداء ما يتمكنون من الحصول عليه لحبيبة، أو لزوجة من الزوجات المصريات المكافحات، اللاتي يأملن في هدية بسيطة، تصبرهن على صعوبات الحياة وتعقيدات تربية الأبناء، حتى موعد المناسبة التالية، سواء كانت عيد ميلاد أو "ذكرى" زواج.
لكن في عصر ما بعد كوفيد-19، تغير الحال وتراجعت الهدايا من نوعية الشيكولاتة والورود، فسمعنا عن المليونير الذي أهدى حبيبته ربع أو نصف بيتكوين، وهذا الملياردير الذي اشترى لابنه الذي لم يكمل عاماً من العمر بضعة وحدات من العملة المشفرة، وغير ذلك من المجاملات التي تمت بالعملات "المعجزة"، التي سجلت ارتفاعات قياسية خلال العام الماضي، واستهلت العام الجديد بارتفاعات تنبئ باستكمال الماراثون الذي بدأ، ولا يعرف أحد متى يتوقف.
ويوم 14 فبراير/ شباط الماضي، أرَّخَ أحد "الأشقياء" لليوم بصورة مبتكرة، حيث نشر على حسابه على موقع تويتر قيمة بيتكوين في ذلك اليوم خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة التي تمثل تقريباً كل عمر العملة التي ابتكرها شخص مجهول، ووصل سعرها في عيد الحب هذا العام لأكثر من 49 ألف دولار أميركي للوحدة الواحدة منها.
وكانت المفاجأة أن سعر العملة، التي كانت مجهولة في هذا اليوم من عام 2010 لم يتجاوز خمسة سنتات وقتها، وهو ما يعني أن من اشترى ما قيمته مائة دولار منها، واحتفظ به حتى يومنا هذا، ارتفعت قيمة مشترياته لتقترب من مائة مليون دولار بأسعار يوم الاثنين الماضي!
لا أحاول توجيه أحد لشراء العملة الرقمية الخطيرة، ولكن تطورات سعرها خلال تلك السنوات فرضت علينا جميعاً أن نلتفت إلى ما يحدث في عالم العملات المشفرة، التي يؤكد كثيرون أنها جاءت لتبقى، وتكون نداً للعملات الرئيسية في العالم، وربما تحل محل الدولار قريباً في السيطرة على كثير من التعاملات.
نجحت بيتكوين، خلال اثني عشر عاماً فقط، في أن تفرض نفسها باعتبارها أفضل الاستثمارات في التاريخ، وأكثرها خطورة طبعاً، بعد أن وصل سعرها خلال تلك السنوات إلى ما يقرب من ثمانمائة ألف ضعف، بينما لم يرتفع مؤشر داو جونز الصناعي خلال عمره الممتد لما يقرب من قرن وربع من الزمان إلا لأكثر قليلاً من ثمانمائة ضعف، وهو ما يعني أن مكاسب العملة المشفرة الأشهر تقترب من ألف ضعف نظيرتها لمؤشر أسهم ثلاثين من أهم الشركات الأميركية، وفي فترة زمنية تقل عن عشر فترة القياس للمؤشر الشهير.
القفزات الكبيرة التي حققتها العملة دفعت بالعديد من الشركات الأميركية الكبرى للاحتفاظ بجزء من أصولها فيها، وهو ما أعلنته شركة تسلا، أكبر منتج للسيارات الكهربائية، حيث قال إيلون ماسك، أكبر مساهم فيها ومصمم منتجاتها، إن شركته اشترت الأسبوع الماضي ما تقترب قيمته من 1.5 مليار دولار من العملة، ليرتفع سعرها بعد الإعلان، محققاً للشركة من الأرباح في يومٍ واحد ما لم تحققه في عقدٍ كامل، انشغلت فيه بتصنيع السيارات.
استمدت بيتكوين بريقها من غياب أي تحكم من سلطة مركزية أو مؤسسة مالية، كما هو الحال مع العملات التقليدية، لتجذب إليها الملايين من الأجيال الجديدة التي تعشق الحرية وتتوق للخروج عن السلطة الأبوية، بينما تركز كبار المستثمرين، المعروفين بتحفظهم في التعامل مع كل جديد، خاصة لو ابتعد عن السلطات التنظيمية، في صفوف المشككين في العملة، ومع ذلك، بدأنا نراهم الواحد تلو الآخر يخرج من أسره، ويبدي ترحيباً بالعملة الجديدة.
لم ينته العام الماضي إلا وكانت العديد من منصات الدفع الإلكتروني قد سمحت باستخدام العملات المشفرة، وعلى رأسها بيتكوين، في تسوية معاملاتها، في خطوة مثلت تحدياً كبيراً للدولار، الذي سيطر لسنوات على المدفوعات الدولية.
وفي رسالة لعملائه، نُشرت على موقعه على الإنترنت، قال بنك مورغان ستانلي، أكبر مدير للثروات في العالم: "بدأت بيتكوين في تحقيق تقدم في طموحها لتحل محل الدولار كوسيلة للتبادل"، والأسبوع الماضي، رضخت العديد من المؤسسات المالية الكبرى لولع الملايين بعملة بيتكوين، وأعلنت أكثر من مؤسسة نيتها توفير منصات بيع وشراء وحفظ للعملة المشفرة، وربما غيرها من العملات الرقمية، لعملائها.
مرة أخرى، لا أنصح أحداً هنا بشراء أو عدم شراء العملة، التي خسرت في بعض الفترات أكثر من 80% من قيمتها، وإنما أتحدث عن تطورات حقيقية، يعرفها كل متابع للعملة المشفرة، في زمنٍ ترتفع فيه بعض الأسهم بنسب تتجاوز 400% في غضون أيام، و150% في ساعات، بينما يلهث ملايين الأشخاص لثماني ساعات لتحقيق أجر لا يتجاوز 60 دولاراً يومياً في أكبر اقتصاد في العالم، وهو المبلغ الذي لا يتحصل ملايين المواطنين في وطننا العربي على ربعه في عدد ساعات العمل نفسها، وربما أكثر.
لا يبدو أننا قريبون من النقطة التي يتراجع فيها ولع المستثمرين بعملة بيتكوين، في ما وصفه البعض بـ"الفقاعة العقلانية"، أو زواج المصلحة، لكن ستكون الأزمة عند حدوث الطلاق، وهو أمر لم يعد بعيداً في عالمنا الجديد.