تفتخر الولايات المتحدة هذا العام بوضعها كأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، مستفيدة في ذلك من الطلب المتزايد من أوروبا على شحناتها، في خضم أزمة طاقة حادة بسبب الصراع المتعاظم مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، إذ أضحت أوروبا تستقبل حالياً نحو ثلثي إجمالي صادرات الغاز المسال الأميركي، لتزيح آسيا عن صدارة كبار المستوردين من أميركا طوال سنوات ماضية.
لكن الاعتماد الأوروبي المتزايد على الغاز الأميركي المسال قد يتحول إلى مصدر قلق عميق للأسر والشركات في القارة الباردة، خاصة أن استقرار هذه الإمدادات ليس مضموناً في ظل تدخل عوامل عدة أكثرها قوة وتأثيراً "الطبيعة الأم" فضلاً عن عدم استعداد البنية التحتية الأوروبية للاعتماد على الغاز المسال، والكلف الباهظة لفواتير الطاقة التي سيتحملها الجميع في أوروبا وتصل إلى تريليوني دولار في 2023، لتواجه القارة جبهات عدة في مواجهة أزمة الطاقة، بدلاً من جبهة روسيا التي تغلق الصنابير في إطار حرب الطاقة المتبادلة مع الغرب.
وحسب تقرير لنشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة، فإن الاعتماد بشكل كبير على الغاز الأميركي يعني الاعتماد على "الطبيعة الأم"، موضحاً أن الإمدادات الأميركية معرضة لظروف الطقس القاسية ومواسم الأعاصير المروعة التي تعطل الإنتاج والصادرات بين الحين والآخر، ما يحمل لأوروبا المزيد من الاضطرابات.
بنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس، يتوقع أن ترتفع فواتير الطاقة للأسر في أوروبا بنحو تريليوني دولار عند وصولها لذروتها في أوائل العام المقبل
ويقع الجزء الأكبر من منشآت تصدير الغاز الطبيعي المسال الأميركي على طول ساحل خليج المكسيك، إذ يأتي الكثير من الغاز الذي يغذي هذه المرافق من الاحتياطيات الداخلية القريبة، من نيو مكسيكو وتكساس إلى لويزيانا، وهي مناطق معرضة للأعاصير، ما يعني أنه عندما تأتي أعاصير مدمرة مثلما حدث في السنوات الماضية، فإن كل شيء من الاستخراج والتسييل إلى الشحن معرض لخطر الانقطاع، وفق "أويل برايس".
وفي السنوات الأخيرة، تسببت الأعاصير المتعددة في درجات متفاوتة من الاضطراب في سوق الغاز الطبيعي المسال عالمياً، فقد أدى إعصار "لورا" في عام 2020 إلى تعطل منشأة "سابين باس" في لويزيانا لتصدير الغاز المسال لمدة أسبوعين، بينما تعطلت مصفاة "كاميرون" لأكثر من شهر. وفي العام الماضي، أدى إعصار "إيدا" إلى تقليص كبير وطويل الأمد في إنتاج الغاز من خليج المكسيك.
وهذا العام، أدى انفجار منشأة فريبورت للغاز الطبيعي المسال ومقرها تكساس في يونيو/ حزيران الماضي، إلى إعاقة ما يقرب من 20% من طاقة تصدير الغاز المسال، ما أدى إلى تدهور أسواق الغاز المسال أيضا، بينما يقول علماء الطقس إن الأعاصير على ساحل خليج المكسيك تزداد حدة بشكل متزايد، ما يعرض البنية التحتية الحيوية للخطر.
الطبيعة ليست وحدها
وليست الطبيعة وحدها التي تهدد إمدادات الغاز الأميركي المسال إلى أوروبا، فهناك أيضا مخاطر توسع الشركات الأميركية في استخراج الغاز الصخري، والذي يقابل بحملات اعتراض شرسة داخل أميركا لتسببه في أضرار بيئية واسعة وأمراض فتاكة لسكان المناطق القريبة من الاستخراج.
ويتعرض قطاع الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة لانتقادات من المنظمات المدافعة عن البيئة، سواء داخل البلاد أو خارجها، إذ تؤكد أن التوسع في الإنتاج يضر بالأهداف المناخية، خاصة الحد من انبعاثات الوقود الأحفوري والوصول إلى الحياد الكربوني.
وفقا للمجموعات المدافعة عن المناخ، فإن الغاز الطبيعي المسال يعد مسؤولاً عن ثلث انبعاثات الكربون في الولايات المتحدة، إذ يعتمد المنتجون على عملية التكسير الهيدروليكي، التي تتمثل في ضخ كميات هائلة من السوائل والمواد الكيماوية في التكوينات الصخرية تحت ضغط عال لإحداث شقوق لتسهيل عمليات التنقيب عن النفط والغاز. ورغم حظر الاتحاد الأوروبي لهذه التقنية، إلا أن التكتل أبدى ترحيبه باستيراد الغاز من الولايات المتحدة.
وفي أغسطس/ آب الماضي، نقلت شبكة "دويتشه فيله" الألمانية عن روبن شنايدر، المدير التنفيذي لمجموعة "حملة تكساس من أجل البيئة"، قوله إن مصدر القلق البالغ يتمثل في إمكانية أن "تستخدم شركات تصدير الغاز الطبيعي المسال أزمة الطاقة في أوروبا كذريعة لتشييد محطات جديدة للتصدير"، وهو ما يضر بشكل كبير بالبيئة.
ضغوط المستهلكين في أميركا
وبعيدا عن هذه القضية، فإن المستهلكين والمصانع الأميركية يواجهون تحدياً في مقاومة ارتفاع الأسعار الناجم عن زيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال في البلاد، ما يمثل أيضا تحدياً أمام استدامة الإمدادات الأميركية نحو أوروبا.
وفي مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، قبل أيام، قال بول سيسيو، رئيس مجموعة مستهلكي الطاقة الصناعية في الولايات المتحدة، إن "المستهلك والاقتصاد والأمن القومي في الولايات المتحدة أضحوا في خطر، إذا لم يتم الحفاظ على فائض المخزون".
وفي هذا السياق، ذكرت وكالة معلومات الطاقة الأميركية أخيراً أن المخزونات الأميركية انخفضت بنسبة 12% من المتوسط الذي كان تبلغه في التوقيت ذاته خلال السنوات الخمس الماضية.
بنية أوروبية غير مؤهلة
كما أن معظم بلدان أوروبا لا تحظى ببنية تحتية كافية لمعالجة الغاز الأميركي عبر تحويله من صورته السائلة إلى الغازية، ما يضع الكثير من الدول في مأزق توفير هذه البنية والإنفاق عليها بينما تتزايد فاتورة الاستيراد بشكل حاد.
وعلى ضوء التعطش الأوروبي للغاز بعيداً عن روسيا، عززت الولايات المتحدة مكانتها في سوق الطاقة، لتصبح أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم خلال النصف الأول من العام الجاري، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية، التي أفادت في تقرير لها في نهاية يوليو/ تموز الماضي بارتفاع متوسط صادرات أميركا على أساس يومي بنسبة 12% لتصل إلى 11.2 مليار قدم مكعبة يومياً في الأشهر الستة الأولى من 2022.
بينما كانت قطر وأستراليا تتنافسان على لقب أكبر مصدّر للغاز المسال عالمياً قبل الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات الغربية على موكسو التي غيرت من خريطة كبار المصدرين. وقد حصلت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على قرابة 71% من صادرات الولايات المتحدة من الغاز الطبيعي المسال، ليصبحا بذلك أكبر مستورد للغاز الأميركي، ويتخطيان آسيا.
وفي ظل الاستفادة الأميركية من زيادة إمدادات الغاز إلى أوروبا، تتهم موسكو واشنطن بأنها هي التي أثارت أزمة إمدادات الغاز في أوروبا من خلال دفع الزعماء الأوروبيين نحو خطوة "انتحارية" بوقف التعاون في مجالي الاقتصاد والطاقة مع روسيا، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، على هامش المنتدى الاقتصادي الشرقي في فلاديفوستوك، الثلاثاء الماضي، إن الولايات المتحدة سعت منذ مدة طويلة إلى قطع علاقات الطاقة بين روسيا والقوى الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا، على الرغم من أن موسكو كانت مورداً للطاقة يمكن التعويل عليه منذ الحقبة السوفييتية.
الولايات المتحدة عززت مكانتها في سوق الطاقة، لتصبح أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم خلال النصف الأول من العام الجاري، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية
وردا على سؤال لرويترز على هامش المنتدى عما يجب فعله من أجل استئناف ضخ الغاز عبر خط أنابيب "نورد ستريم 1"، قالت زاخاروفا: "أنتم تسألونني أسئلة حتى الأطفال يعرفون الإجابة عنها، من بدأوا هذا الأمر عليهم إنهاؤه"، مضيفة "إنه انتحار، ولكن سيتعين عليهم على ما يبدو اجتياز ذلك". في المقابل، تتهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي روسيا بالابتزاز في مجال الطاقة، بعدما خفضت موسكو إمدادات الغاز للعملاء الأوروبيين.
وعدم استئناف الإمدادات عبر "نورد ستريم 1" يزيد من مخاطر انقطاع التيار الكهربائي ويشعل موجة غلاء السلع والخدمات من جديد في دول الاتحاد الأوروبي، كما ستتضاءل المخزونات التي عكفت أوروبا على تكوينها خلال الشهور الماضية. و"نورد ستريم 1" أكبر خط أنابيب غاز روسي إلى أوروبا من ناحية الكمية التي تبلغ 55 مليار متر مكعب سنوياً.
فواتير باهظة على الأسر والشركات
وتبدو فاتورة الاستعاضة بالغاز الأميركي المسال عن الإمدادات الروسية باهظة الكلفة بالنسبة للأوروبيين، إذ تنوء الأسر والشركات عن حملها، ما يعرض القارة العجوز إلى مخاطر اجتماعية وسياسية خلال الفترة المقبلة.
ووفق تقرير لبنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس، فإنه من المتوقع أن ترتفع فواتير الطاقة للأسر في أوروبا بنحو تريليوني يورو (ما يعادل تريليوني دولار) عند وصولها لذروتها في أوائل العام المقبل، ما يبرز الحاجة إلى تدخل حكومي.
وستمثل فواتير الطاقة 15% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا، وفقاً لما نقلت وكالة بلومبيرغ، مساء الثلاثاء الماضي، عن مذكرة للبنك الأميركي، مشيرة إلى أن الأزمة ستكون أكثر حدة حتى من أزمة النفط في السبعينيات.