أوروبا تكتوي بأزمة الغاز: نقص الطاقة يفاقم معاناة القارة العجوز وروسيا تقلّص الإمدادات
تصاعدت معاناة القارة العجوز من أزمة الطاقة في ظل صراعاتها السياسية مع روسيا التي عمدت إلى تقليص تدفق الغاز إلى أوروبا، وفي هذا الإطار، وجدت ملايين الأسر الأوروبية نفسها في مواجهة فواتير طاقة أعلى بكثير من الأعوام الماضية.
وظهرت في الأفق مخاوف أوروبية مكتومة من تصاعد ردود الأفعال الروسية، وسط دعوات لإبطاء تشغيل "سيل الشمال2" (نوردستريم2) الذي انتهى مده من روسيا إلى الشمال الألماني مرورا ببحر البلطيق. وما يزيد معاناة القارة العجوز اعتمادها على استيراد نسبة كبيرة من الطاقة من الخارج ولا سيما من روسيا التي تصدر لها نصف احتياجاتها من الغاز تقريباً، حسب بيانات رسمية.
أبعاد عديدة تتعلق بهذا الملف زادت من تعقيد أزمة الطاقة في أوروبا، ومنها دخول بيلاروسيا على الخط، بعد تهديد رئيسها، ألكسندر لوكاشينكو، القارة العجوز بوقف مرور الغاز إليها، رداً على انتقادات أوروبية وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على نظامه.
ويعتمد المعسكر الأوروبي بشكل متزايد على الطاقة المستوردة من الخارج، إذ ورغم اختلاف النسب المئوية من 97 في المائة في حالة مالطا ونحو 77 في المائة لإيطاليا إلى حوالي 67 في المائة لألمانيا، فإنّ متوسط اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على مستوردات الطاقة من الخارج تصل إلى نحو 60 في المائة.
الزيادات التاريخية في أسعار الوقود على الأراضي الأوروبية، خصوصاً مع بدء فصل الشتاء القارص، يذهب بدوله إلى وضع غير سار في 2021.
وفي كواليس "الاقتصاد السياسي" الأوروبي يبدي البعض قلقه وحاجة القارة للبحث عن بدائل أبعد من جغرافية روسيا، بما فيها مشاريع مقترحة من المتوسط والخليج العربي، من خلال خطوط تتشابك فيها أيضا مصالح روسية وغير روسية، وتظهر آثارها في البحر الأسود وقزوين.
معاناة القارة العجوز
عانت أوروبا، خلال الفترة الأخيرة، من انخفاض مخزونها من الغاز الطبيعي، وذلك بعد الكشف عن أن شركة غازبروم الروسية لم تقم بتخزين كاف في ألمانيا والنمسا، ما أشاع أجواء عدم يقين بشأن استقرار الإمدادات الروسية.
ودفع ذلك إلى قفزات في أسعار الغاز والتدفئة في عموم أوروبا مع بداية خريف العام الحالي 2021، وبقاء مؤشرات الارتفاع مع الشتاء الذي يرهق فواتير مواطني الاتحاد الأوروبي.
وحسب كبير الباحثين في معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، مايك فولوود، فإن ارتفاع الأسعار في السوق الأوروبي يعود في جزء رئيسي منه إلى عدم قدرة غازبروم الروسية على تلبية توقعات عملائها الأوروبيين مدهم بما وقعوا عليه في العقود طويلة الأجل، والتي تخزن في روسيا والاتحاد الأوروبي.
"غازبروم" من ناحيتها اتبعت تكتيكاً للضغط على الأوروبيين "لأجل السماح السريع بتدفق الغاز عبر خط سيل الشمال2 (نوردستريم2)"، حسب تصريحات لمايك فولوود لـ"يولاند بوستن" الدنماركية، أمس الأربعاء.
تصعيد ألماني وضغط روسي
وشهد الثلاثاء الماضي، فرملة "هيئة الطاقة الاتحادية" ووكالة الغاز الطبيعي الاتحادية في ألمانيا عملية الموافقة على "سيل الشمال2"، وذلك بحجة أن الملاك المدرجين في غازبروم لم يقوموا بما يقتضيه القانون الألماني بتأسيس شركة تشغيل في ألمانيا نفسها، حيث لم يُقبل بوجود الشركة المشغلة في سويسرا.
القرار الألماني الأخير يثير المزيد من الغموض على حالة سوق الوقود الأوروبي، إذا يسود اعتقاد بأنّ تشغيل "نوردستريم2" بطاقته السنوية البالغة 55 مليار متر مكعب، لن يدخل حيز التنفيذ قريباً.
وإبقاء الروس لإمدادات الغاز في الحدود الدنيا يعني أن مواطني وشركات شمال وغرب أوروبا سيجدون أنفسهم تحت ضغط ارتفاع الأسعار، بحسب تصريحات لكبيرة محللي سوق الغاز في المجموعة الاستشارية النرويجية "ريستاد إنرجي" إميلي ماكلين. ورأت ماكلين أن الإبقاء على الأسعار تحت السيطرة "يتطلب مؤشرات واضحة على أن روسيا بصدد زيادة صادرات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي".
تهديدات بيلاروسيا
ولعل تداخل السياسة بالاقتصاد، وخصوصا الطاقة، بدأ ينعكس في تصريحات متشنجة للرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في تهديده أوروبا بوقف مرور الغاز إليها، بعد انتقادات وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على نظامه على خلفية أزمة لاجئي الحدود مع بولندا، والاتحاد الأوروبي من خلفها.
تلك التهديدات يقرأها الأوروبيون كحالة "منسقة" بين لوكاشينكو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع توقعات بأن يكون شتاء أوروبا هذا العام قارصا جدا ومكلفا جدا ماليا لدول شمالها وغربها، التي عانت بالأساس من آثار جائحة كورونا.
الاعتماد على الخارج
أزمة ارتفاع فاتورة الطاقة الأوروبية يعيدها المختصون إلى اعتماد القارة بشكل متزايد على الواردات من الخارج، حيث يسري قلق من أنه سواء تعلق الأمر بالغاز أو النفط والفحم فإن الشركات الروسية باتت تهيمن على السوق، بل وعلى نحو نصف واردات الدول من الغاز الطبيعي، ما يترك الأوروبيين بين فكي كماشة خلط السياسة بالطاقة.
فتوفير الغاز الطبيعي للقارة يتم من الخارج عبر خطوط أنابيب من بيلاروسيا وأوكرانيا وتركيا، من خلال البحر الأسود، بالإضافة إلى أنابيب بحر البلطيق.
معضلة الأوروبيين أنهم في قمة المناخ العالمية الأخيرة في غلاسكو، كوب 26، (بين 31 أكتوبر/ تشرين الأول و12 نوفمبر/ تشرين الثاني) أطلقوا مشاريع وتصريحات طموحة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، فيما الواقع يفيد بأن تحقيق أهداف وكالة الطاقة الدولية (IEA)، لسيناريو صفر انبعاثات الغاز المضرة بالغلاف الجوي بحلول 2050، لن يكون بمتناول الدول، وهو على الأقل ما ذهب إليه الرئيس التنفيذي لشركة بريتش بتروليوم، برنارد لوني، في كلمته مؤخرا أمام مؤتمر أبوظبي للبترول الدولي.
وفي سيناريو وكالة الطاقة الدولية، فإن الاحتياج والطلب العالمي على النفط سينخفض بحلول 2050 إلى نحو 24 مليون برميل يومياً (بدل 100)، أي بما يكفي لملء نحو 10 ناقلات عملاقة.
ورغم إعلان شركات كبرى، وبينها "بريتش بتروليوم" عن خفض إنتاج النفط والغاز بنسبة تصل إلى 40 في المائة بحلول 2030، ما يعني إيقاف جميع عمليات الاستكشاف الجديدة في مختلف الدول، فإنّ شركات أخرى مثل "رويال دوتش شل" متعددة الجنسيات، و"إيني" الإيطالية تزيد إنتاجها إلى الذروة بحلول 2025، مع استمرار طلب الصين ودول أخرى للطاقة، وثبات الروس في الإنتاج وغياب توافق على خفض الإنتاج العالمي بما يخدم المناخ.
وخلف خطابات سياسة خفض الانبعاث الغازي الضارة، والتحول الأخضر، يبدو أن تلك الخطط، ومن بينها خفض إنتاج شركات غربية للوقود الأحفوري، سيزيد من اعتماد الدول الأوروبية على إمدادات روسيا منه، وهو أمر بالطبع يُسعد صناع القرار في الكرملين، بزيادة استخدام الطاقة في توسيع النفوذ والمكانة في السياسات الأوروبية.
روسيا تعزّز استثماراتها
وفي المقابل، تعزّز روسيا استثماراتها في الغاز في ظل سيناريو زيادة اعتماد أوروبا على الوقود الأحفوري القادم منها، إذ تندفع موسكو نحو الاستثمار في مزيد من حقول الغاز الطبيعي، كما حدث الأسبوع الماضي من خلال اتفاقية بين شركات روسية مسيطر عليها من الدولة وإيران لتطوير أحدث حقول الغاز، تشالوس في بحر قزوين.
الأمر لا يقتصر على موسكو في بحر قزوين، بل دخلت أيضا الصين على الخط للاستحواذ على حصص في حقل تشالوس للغاز والنفط، والذي تعتبره طهران ضمن حدودها الإقليمية في قزوين، رغم الاختلاف مع أذربيجان وتركمنستان على ذلك.
حجم هذا الحقل، المقدر بنحو 8250 مليار متر مكعب، يعني أن الشركات الروسية سيصبح لديها المزيد من الأوراق لناحية فرض شروطها على إمداد أوروبا بالغاز، وخصوصا أن تلك الكمية تغطي تقريبا استهلاكا عالميا على مدى عام ونصف العام من الغاز الطبيعي والوقود.
بالنسبة لأوروبا، وخصوصا شركات النفط الكبرى، فإن دخول موسكو عبر شركة غازبروم وترانسنفت على خط حقل تشالوس بنسبة 40 في المائة، واستحواذ شركات صينية على نسبة 28 في المائة، يضعها خارج الاستفادة من مليارات تصدير الغاز المكتشف في قزوين. فعلى الرغم من العقوبات الدولية على طهران، والتي تحد من قدرتها على تصريف قانوني للوقود الأحفوري، يقدر الأوروبيون أن موسكو وبكين غير آبهتين بالعقوبات.
وبالتالي فإن غازبروم الروسية، التي تحتكرها الدولة الروسية، ستكون قادرة على تصدير الغاز الطبيعي الإيراني عبر شبكة أنابيبها لبيعه في أوروبا، وسيواجه الاتحاد الأوروبي مصاعب كثيرة في تحديد وتوثيق ما هو غاز روسي وإيراني يخضع للعقوبات، خصوصاً حين يصل إلى إيطاليا وألمانيا.
سياسة موسكو في مجال الاستثمار بالطاقة الإيرانية ستزيد بطريقة عملية الاستفادة من حقل تشالوس لتعزيز تغطيته لنحو نصف احتياجات الاتحاد الأوروبي المتوقعة من الغاز الطبيعي، وفي الوقت نفسه يزيد اعتماد النادي الأوروبي على الغاز عبر روسيا.