- يستذكر الكاتب لقاءه بمحمد عبد الوهاب في باريس قبل 40 عامًا، حيث ناقشوا الفجوة بين الواقع والتصوير الفني لحياة الفلاحين، مما يعكس أهمية الكرامة الاقتصادية.
- يربط الكاتب بين النقاش مع عبد الوهاب وكتاب سبيرلنغ، مؤكدًا على أن الكرامة الاقتصادية تتجاوز توفير العمل والطعام لتشمل الأمن والأهمية والكفاءة في العمل، متسائلاً عن تطبيق هذه المبادئ في غزة.
في آخر زيارة لي إلى الولايات المتحدة قبل ثلاثة أشهر تقريباً، دخلت إلى دار بارنز ونوبل، لبيع الكتب، في واشنطن العاصمة. ووقع نظري على كتاب بعنوان "الكرامة الاقتصادية" أو Economic Dignity من تأليف كبير المستشارين الاقتصاديين في إدارتي الرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما واسمه جين سبيرلنغ Gene Sperling، وقد بدأت أقلب صفحات الكتاب الذي أثار فضولي فاشتريته.
أذكر ونحن في وادي الذكريات أنني قبل 40 عاماً كنت في باريس ماراً لليلة واحدة في طريق عودتي من جيبوتي إلى عمّان عاصمة الأردن. وفي تلك الليلة اتصلت بالزميل والأخ طاهر المصري الذي كان أيامها سفيراً للأردن في باريس، علماً أنه لاحقاً صار رئيساً للوزراء، ورئيساً لمجلسي النواب والأعيان. وصادفت تلك الليلة أن كان في ضيافته الراحل محمد عبد الوهاب، المطرب والموسيقار، والذي تجاذبت معه الحديث، وأعجب بمعرفتي بأغانيه.
لكن الحديث لم يمض على خير ما يرام، وذلك لأنني سألته "لقد لحنت أغنية اسمها 'ما أحلاها عيشة الفلاح' غنتها أسمهان على لسان فلاحة مصرية في فيلم لك مع رجاء عبده اسمه 'ممنوع الحب' ثم عدت أنت وغنيتها بصوتك ونسي الناس نسختها الأسمهانية؟"، قال: "أفتكر كده" فقلت له: "ولكن لما تغني أغنية كهذه ويوسف إدريس كتب قصة 'الحرام' التي تتحدث عن ملايين عمال التراحيل الذين كانوا إن وجدوا عملاً لجمع دودة القطن يكدون من الفجر حتى الغروب ليأخذوا أجراً 'ثلاثة تعريفة' ويُمنحون وجبة غذاء من رغيف خبز ورأس بصل ناشف، وأنت يا سيدي تقول له:
ماً أحلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح
يتمرغ، يتمرغ على أرض براح والخيمة الزرقا ساتراه
وتمضي لنقول في الكوبليه الثالث:
الشكوى دي عمره ما قالهاش
إن لاقى ولا ما لقاش
والدنيا بقرشين ما تسواش
طول ما هو اللي حبه حداه
وياه ياه ياه ياه ياه".
فغضب الرجل وصمم على ترك منزل السفير، لكننا رجوناه أن يبقى، فبقي بعد لأي. لكن ما يربط القصتين هو التالي: "هل تتحقق كرامة الانسان الاقتصادية إن عثر على عمل وأمن لنفسه الحد الأدنى من الطعام؟". في رأي أغنية عبد الوهاب الجواب بالإيجاب، أما في كتاب سبيرلنغ، فالأمر يحتاج إلى تعمق أكثر.
ولكي نبدأ الحديث عن محتوى كتاب "الكرامة الاقتصادية" فإن تلميحاً لهذا الأمر جاء في مقالة من صفحة واحدة للاقتصادي الألمعي والذي توفي عن سن الواحدة والأربعين عام 1969، واسمه راماسوامي V.K. Ramaswami.
ويقول في تلك الملاحظة القيمة إن الطعام إذا لم يتنوع، وبقي الانسان يأكله كل يوم، فهذا ليس استهلاكاً، بل هو مصدر للطاقة. فالاستهلاك يجب أن تصاحبه المتعة. ولهذا الرأي علاقة وطيدة بمعنى الكرامة. فطعام عامل التراحيل، أو الطعام الذي يباع في شوارع الهند على ورق الشجر (ورق الموز بخاصة)، يشبه العلف الذي نعطيه للدابة التي تحمل أسفاراً، أو البنزين الذي تملأ به خزان السيارة. إنه نفسه لا يتغير، ولذلك فالعلف والبنزين هما مثل الطعام البشري المتكرر والذي لا يمكن أن يتناسب مع الكرامة الاقتصادية للبشر.
وسبيرلنغ لا يذكر راماسوامي في كتابه، لكن يثير التساؤل حول الفهم الاقتصادي لأعضاء الكونغرس الذين يعتبرون توفير تأمين صحي في متناول الشعب الأميركي كله أمراً هامشياً، ويتعجب من قولهم مستنكراً له. ويقول: "هؤلاء يتحدثون عن النمو في الناتج المحلي الإجمالي، أو زيادة فرص العمل"... لكنه يؤكد أن تحقيق النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل هو شرط ضروري لتوفير الحاجات الأساسية للناس، لكنه ليس كافياً لتحقيق الأمر الأهم، وهو الكرامة الاقتصادية التي يعتبرها قائمة على ثلاثة أعمدة أو Pillars. وأول الأعمدة الثلاثة المحققة للكرامة هو قدرة رب الأسرة أو ربة الأسرة على التفاعل مع الأسرة وأفرادها، والانتباه إلى حاجاتهم، وتنمية قدراتهم.
فكرامة رب الأسرة تنبع من قدرته على توفير الرعاية والأمن لأفراد أسرته. والعمود الثاني هو قدرة المواطن على ترتيب أولوياته التي يريد إنجازها، وشعوره أن ما يقوم به هو أمر مهم، فلا أحد يجب أن يبقى نكرة، أو يعتقد أنه هامشي لا يؤثر في المجتمع الذي يعيش فيه. والثالث هو القدرة على العمل، والإجادة فيه، وتوفير دخل يمكنه من تغطية فواتيره الصحية، ومن التمتع بوجبة جيدة في الأسبوع على الأقل، وفي الإقبال على العمل بحب وإخلاص وإتقان، وسعيه لترك بصمته المُقَدَّرة من الآخرين.
وعليه، فإن المؤلف سبيرلنغ يطرح التساؤل حول قيمة النمو، وقيمة فرص العمل إذا لم تتوفر فيها شروط الكرامة، فهنالك ربط واضح بين ما نحققه أفراداً وما نتركه من إيجابيات على كرامة أسرنا التي نرعاها والمجتمع الذي نعيش فيه، وفي المقابل يوفر لنا المجتمع أسباب الكرامة الاقتصادية. ولذلك يحصل هذا التقاص بين المجتمع كله، والأفراد الذين يكونونه، بمعنى أن الأفراد لا يعيشون تحت ظلم معادلة الصفر، أو أن ما يحصل عليه شخص ما ينكر على شخص آخر. وبعبارة أخرى فإنّ اقتصادياً ورياضياً بارعاً مثل جون ناش John Forbes Nash Jr. فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994 لأنه حوّل معادلة الصفر التي تفترض التنافسية الضارة إلى معادلة "الكل يفوز" Win-Win Situation.
ويعود الكاتب سبيرلنغ بنا إلى خطاب ألقاه روبرت كينيدي شقيق الرئيس جون كينيدي. وقد اغتيل كلاهما عامي 1963 و1968 حين كان روبرت المرشح الأقوى للفوز بالرئاسة الأميركية في ذلك العام. وقبيل أن يغتاله سرحان سرحان، كان روبرت قد قال إن الناتج المحلي الإجمالي يشمل أرقاماً مثل قيمة ما أنتجناه من قنابل، ومبيدات حشرية، وسلعاً ضارة، ويشمل كذلك قيمة التلف في البيئة، وحرائق الغابات، وما ننفقه على المخدرات والغازات السامة. ولذلك، ليس دائماً مقياساً للنمو وتحقيق الكرامة.
وفي العالم الذي نحيا فيه الآن هناك أكثر من مليار شخص جائع، وتمييز واضح ضد المرأة في العمل، واستعباد لملايين الأشخاص من الضعفاء كالأطفال والنساء والذين يسخرون لخدمة المجرمين في البغاء والعمل بدون أجر. وكذلك، ينسى العالم العصابات الاجرامية التي تحتقر الكرامة الاقتصادية للإنسان.
قرأت الكتاب ورأيت فيه بوادر مؤشرات إنسانية من اقتصادي يعتنق الديانة اليهودية، وعمل في السياسة على أعلى المستويات. وبحثت في الصفحات لأرى إن كان لهذا الرجل بعد تركة العمل في البيت الأبيض أي مواقف تنسجم مع ما وصفه من أفكار ومبادئ في كتابه. فعلمت أنّ زوجته كاتبه مرموقة وذات نفوذ، وأنه هو نفسه مشغول بإنتاج مسلسل تلفزيوني عن حياة زعيم العصابات المكسيكي بابلو إسكوبار Pablo Escobar، لكنني لم أجد له ولو تصريحاً واحداً عما يجري من هدر للكرامة بكل أبعادها في قطاع غزة.
ولقد ذكر جين سبيرلنغ في كتابه أنّ الأعمدة الثلاثة للكرامة الاقتصادية هي قدرة رب البيت أو ربة البيت على توفير الشروط الأساسية لأفراد أسرته أو أسرتها لتشعر بالدفء والكرامة. فهل ما تفعله إسرائيل من قتل وتدمير يبقى للأسر الغزية التي يقتل أفرادها معاً تحت سقف واحد أي كرامة؟ وأي مشاعر من الكرامة تبقى لدى رب أسرة يرى أنه عاجز عن توفير أبسط الأشياء والحاجات لأبنائه، حتى لو كان الطعام نفسه كلّ يوم؟
وقال لنا المؤلف إنّ العمود الثاني هو قدرة الفرد على أن يقوم بإنجازات تجعل المجتمع يفتقده؟ فهل بعد هذه الاستهانة بالحياة البشرية والمذابح اليومية التي تمارس على جموع الناس ما يَشي بأن لهؤلاء دوراً سوف يفتقد، حتى لو كان طبيباً أو ممرضاً أو صحافياً أو عاملاً في منظمة دولية إنسانية يسعى أفرادها لتقديم العون والطعام والدواء لأهل غزة الصابرين؟ وهل صَمْت العالم عن هذه الجرائم يجعل أهل غزة يشعرون أنهم مهمون وأن لهم قيمة؟
وأما العمود الثالث فهو العمل المجدي المفيد الذي يجعل الإنسان قادراً أن ينجز بكرامة ويمنحه المجتمع كرامة معززة، فأين هذا من أهل غزة المحشور أكثر من مليون شخص منهم في رفح والمسؤولون في الولايات المتحدة وإسرائيل يناقشون عبر تطبيق "الزوم" إذا كان ترحيل هؤلاء سيستغرق أربعة أسابيع أم أربعة أشهر؟
لم نسمع من سبيرلنغ شيئاً. ولذلك يجب حشره مع زمرة الكذابين الذين يتحدثون عن الكرامة والحقوق وعدالة التوزيع، لكنهم يتجاهلون حقوق أهل غزة التي فضحتهم وعرّتهم أمام الدنيا كلها.