سُجلتْ بعض المآخذ من بعض المعلقين على حضور رئيس الكيان الإسرائيلي إسحق هرتسوغ اجتماعات (COP 28) والتي عقدت بإمارة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، مطلع الشهر الحالي. وقد كان الحضور ممثلاً لأكثر من (200) دولة مميزاً، والمشاركون بتمثيل رأس الدولة كانوا كثراً من الدول العربية والآسيوية والأجنبية.
ومع أن دولة الإمارات تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وشروط الدعوة ألا تستثنى أي دولة من الدعوة للمؤتمر، إلا أن تزامن بداية الاجتماعات مع عودة إسرائيل لضرب قطاع غزة بتلك الكثافة اللاإنسانية يترك في النفس غصة، حتى وإن قبلت بمبررات الدعوة من الناحية القانونية.
أما الملاحظة الحامضية فقد جاءت في تعليقات كثير من المعلقين وبعض الخبراء الذين رأوا تناقضاً في مكان انعقاد المؤتمر وأسبابه ودوافعه. وعلق موقع كاربون بريف Carbonbrief على ذلك أن بارونات النفط المتسببين في تراجع البيئة هم أنفسهم الذين يعقدون مؤتمراً لتخفيض الانبعاثات الكربونية من البيئة.
وطبعاً هذه جملة تنطوي على فكاهة مريضة، لأنها تغفل أن المؤتمر قد سبق وعُقد في دول تعتبر من أكبر الملوثين، مثل الهند، وبعض الدول الصناعية الأوروبية. إن إنتاج النفط يعتمد على حجم الطلب عليه، ولذلك فإن التلويث يأتي في معظمه من الذين يحرقونه، ويرسلون غازاته في الفضاء.
وأما المفارقة الثالثة لعقد المؤتمر فقد كانت أن هذا هو المؤتمر الخامس الذي يلتئم في دولة عربية. فقد سبق له أن عقد سابقاً مرتين في المملكة المغربية (2001 و2016) وقطر (2012) ومصر (2022).
وسوف نطرح السؤال الآن عن مدى ما أنجزته مؤتمرات البيئة الثمانية والعشرين من أجل تحسين البيئة ودوامها، والحفاظ على الموارد الطبيعية، وحماية النظام الأيكولوجي في العالم، أو ما يسمى "دوام البيئة".
والعجيب أن أحسن التقارير عن الموضوع جاءت على ألسنة خبراء عرب، أو من أصول عربية، والتي حصرت اهتمامها في دور جهود المنظمات والمؤسسات غير الحكومية. وفي تقرير قدمه المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل أجندة 2023 للتنمية المستدامة الدكتور محمود محيي الدين سابقاً، رأى أن التأثير جاء عبر مشروعين أساسيين قامت بهما هذه المنظمات. الأول هو "السباق نحو الصفر" (Race to Zero)، أي الوصول لهدف منع إطلاق أي انبعاثات كربونية في الجو. والثاني هو السباق نحو المرونة (Race to Resilience)، أو (السباق نحو الاستجابة)، وهي ربما تكون الترجمة الأدق.
وإذا تابعتَ لغة أهل الاختصاص من "نجوم البيئة"، فسوف تجد أن خطاباتهم ومقالاتهم مليئة بالمصطلحات التي قد تحتاج إلى قاموس لمتابعتها. ومن الاصطلاحات المستخدمة على سبيل المثال لا الحصر القوس المناخي (Climate Arc)، ومصطلح (Adaptation Gap)، وهو ما يمكن تسميته (فجوة التكيف) مع المتطلبات التنفيذية لتحويل الأفكار إلى عمليات ممارسة. ومصطلح (Mangrove Breakthroughs)، أو اختراقات مانغروف، والكثير الذي لا أريد أن أثقل كاهل القراء به.
وإن ظلت لغة تقارير البيئة مثقلة بتعابير تتبخر وتتبدل بسرعة تفوق سرعة ظهور بعض جزر الأرخبيل الإندونيسي واختفائها، فإن هذا سيخلق فجوة التواصل (Communication Gap) بين المهتمين بالبيئة وخبرائها وبقية العباد الآخرين، وسيجعل دراسات البيئة تبدو وكأنها قادمة من برج عاجي لا يرتبط بحياة الناس.
ولكن الجهود هذه قد نجحت في خلق معايير باتت تخترق السقوف الزجاجية، والحجج التي تقدمها بعض الدول النامية ضد التقيد بقوانين البيئة. وهناك أمثلة دافعة على مدى الضرر الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي الذي لحق بالدول التي لم تنهض إلى تحمل مسؤولية "دوام البيئة"، كيف انتشرت فيها الأمراض، والجفاف، والتسمم، والهجرات الجماعية. ومن الأمثلة على ذلك دول مهمة مثل الصين، وبعض الولايات في الولايات المتحدة (كاليفورنيا بوجه خاص)، والمكسيك والبرازيل، والهند، وباكستان. وما تراه من كوارث طبيعية مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات ونقص المياه في دول نامية ومتقدمة.
ولذلك ساهمت المؤتمرات، بدءاً من قمة الأرض التي عقدت في البرازيل في شهر يونيو/ حزيران 1992 برعاية الأمم المتحدة، والتي سعت إلى الاتفاق على مخطط للعمل الدولي للبيئة، ومؤتمرات "COP" في وضع معايير وسلوكيات بيئية. ومنذ عام 1995 ومؤتمر "COP" يعقد سنوياً بانتظام كل عام حتى موعد هذا المؤتمر الذي نحن بصدده في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة.
ومن الإنصاف القول إن أول جمعية دولية تحدثت في هذا الموضوع كانت "نادي روما" أو (Club of Rome)، والذي أصدر تقريراً عام 1972 بعنوان "محددات النمو" أو (The Limits of Growth)، والذي أثار اهتماماً كبيراً عند صدوره. وبما أنه كان التقرير الأول لنادي روما، فقد تعرض لنقد كبير (التقرير ومُصدروه)، بسبب مقترحات التقرير، وقد اعتمد على نموذج تشبيهي (Simulation Model)، احتسب فيه معدلات النمو الحقيقية لكثير من الدول، مع الأخذ بالحسبان التآكل في الموارد الطبيعية، نتيجة لسعي الدول نحو النمو السريع.
وقد وجد التقرير أن تقليل معدلات النمو سوف يقلل كثيراً من هدر الموارد الطبيعية، ويعود بنفع أكبر على رفاهية المواطنين ومستوى حياتهم، خاصة في الدول النامية. وقد بيعت أكثر من (30) مليون نسخة من التقرير الذي تُرجم إلى ثلاثين لغة. ولكن كثرة النقد والاتهامات التي وُجهت له وضعت نادي روما في موقف حرج جداً.
ولما تبين بعد سنوات أن معدل نمو الدول لم يزد عن (1%) بالأرقام الفعلية خلال عقد السبعينيات مقابل هدف تحقيق نمو (3%)، وأن هذا الهدف العالي لم يتحقق منه إلا ثلثه مع خسارة فادحة في البيئة، عاد كثيرون عن نقدهم للنادي، والذي كان لي شرف العضوية فيه لحوالي عقد من الزمان.
لقد بات واضحاً الآن أن هذه المؤتمرات قد خلقت مناخاً دولياً محفزاً لحماية البيئة وديمومتها. ولذلك فهي مهمة. ولكن انعقاد "COP28" قد أتى في زمن تشهد فيه المنطقة حرباً لا إنسانية ضد المدنيين في فلسطين من قبل دولة تعتبر نفسها أيقونة الديمقراطية واحترام الحياة الإنسانية، ولكنها في الواقع كيان عنصري لا إنساني وكان داعماً قوياً لنظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
أشار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في كلمته التي ألقاها في اليوم الافتتاحي لمؤتمر "COP28" إلى أن الحرب في غزة، وما نتج عنها من دمار، قد حولتها إلى كارثة إنسانية، بسبب الاستخدام المكثف للأسلحة والقنابل الفوسفورية والنابالم، وكارثة بيئية بسبب هدمها كل مرافق البنى التحتية التي تحول دون تأزيم الوضع البيئي.
كيف يُعقد مؤتمر لحماية البيئة في دولة عربية في الوقت الذي تمارس فيه أبشع صور الفساد والإفساد البيئي في العالم على منطقة عربية أخرى؟ ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الطغمة الحاكمة والعنصرية في الكيان الصهيوني تسعى إلى توتير الأمور، بدفع عشرات الألوف من سكان غزة للعيش في بقعة مجزوءة من غزة التي كانت من أكثر أماكن العالم كثافة بالسكان.
ولا أدري عند كتابة هذه السطور إن كان المؤتمر سيتبنى قراراً يجعل من الحروب واستهداف المدنيين والبنى التحتية والفوقية الحامية للبيئة جريمة بيئية، عدا عن كونها جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية؟ إذ لا يمكن أن تستمر في الحديث عن التلوث البيئي الناجم عن الاستخدام المفرط للوقود الأحفوري، في الوقت الذي تسببت فيه الحروب والمبيدات والقنابل بالدرجة نفسها من التلوث والهدم والدمار والهجرات غير الإنسانية للناس من أوطانهم وأماكن عيشهم التي عاشوا عليها آلاف السنين.
يقول الأديب والروائي المصري يوسف السباعي في إهدائه لكتابه أرض النفاق "إلى خير من استحق الإهداء، إلى أحب الناس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، إلى يوسف السباعي، ولو قلت غير هذا لكنت شيخ المنافقين من أرض النفاق". والعرب ليسوا منافقين، فليصمموا على إصدار بيان يدين إسرائيل لتخريبها البيئة في غزة والضفة الغربية.