قرأت عشرات المقالات، وشاهدت عدداً من المقابلات المتلفزة، وعدداً آخر من الأشرطة الإلكترونية على شاشة الهاتف عن الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها الدولة المحتلة إسرائيل منذ السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي وحتى الآن.
وقد ركز بعضهم على خسائر إسرائيل المتمثلة في تراجع الناتج المحلي الإجمالي، وآخرون أشاروا إلى تراجع معدل سعر صرف الشيكل مقابل الدولار، والبعض أضاف الخسائر في بورصة إسرائيل، بالإضافة إلى تراجع السياحة وإلغاء الرحلات السياحية، والخسائر الناجمة عن تراجع الصادرات وبخاصة العسكرية، وتوقف كثير من المصانع. وقد بلغت تقديرات الخسائر حتى مساء يوم الأحد الماضي 13 نوفمبر/ تشرين الثاني ما يقارب 60 مليار دولار.
ولا يفرق كثير من المحللين في هذا المجال بين كلف الحرب من ناحية، والخسائر الاقتصادية التي تتكبدها مختلف القطاعات بسبب الحرب.
مجمل الكلف المباشرة الناتجة عن العمليات العسكرية وصلت بعد مرور 41 يوماً على بدء المعارك ما يقارب 8 مليارات دولار
فالكلف الحربية تتمثل في كلف الذخائر، واستدعاء الاحتياطي، والجرحى وكلف علاجهم، والدمار الذي يلحق بالبنى التحتية والفوقية، وانحباس مئات الآلاف داخل الملاجئ، والاستهلاك الذي يطرأ على الآليات العسكرية. وتقول بعض التقديرات العربية إن هذه ربما تقارب 200 مليون دولار يومياً، وعليه، فإن مجمل الكلف المباشرة الناتجة عن العمليات العسكرية قد وصلت حتى هذا اليوم الخميس وبعد مرور 41 يوماً على بدء المعارك ما يقارب 8 مليارات دولار.
وبناء على ما سبق، فإن التقديرات المعقولة للحرب حتى الآن تقارب 75 مليار دولار. وهو مبلغ ليس بالهين. ولكن الكلف الحقيقية على الاقتصاد والكيان الإسرائيلي سوف تتجلى في تراجع الثقة بمنتجاتها، وزيادة الشك في ادعاءاتها، والمقاطعة لسلعها وخدماتها، والنظرة الدونية لكيان تمارس حكومته وقواته العسكرية جرائم حرب وإبادة وقتل للأطفال والنساء وتهديم للمباني والمستشفيات والعيادات الصحية، حارمة الشعب الغزي من أبسط حقوقه الحياتية في الماء والغذاء والدواء والطاقة والتواصل.
إن السمعة التي تمتعت بها إسرائيل وكلفت المؤسسات الحكومية واليهودية في العالم مليارات الدولارات لكي تبني صورة إسرائيل البراقة قد سقط عنها القناع، وتولى وهجُها الكاذب، وتعرت كدولة أبارتايد عنصرية لا تستحي ولا تخجل.
ولكن السؤال الأهم من كل هذا النقاش، ما الذي يقصده المتابعون له؟
السمعة التي تمتعت بها إسرائيل وكلفت المؤسسات الحكومية واليهودية في العالم مليارات الدولارات سقط عنها القناع
هل يعتقدون أن نتنياهو وجنرالاته سوف يتوقفون عن ممارساتهم ويوافقون على وقف إطلاق النار، كما طالبت القمة العربية الإسلامية التي عُقدت بالرياض يوم السبت الماضي، أم أن هذه الكلف لا تشكل العنصر الحاسم في هذا الأمر؟
أما الأمر الثاني فهو كم هي الخسائر التي نجمت منذ اندلاع الحرب على أهل غزة، والضفة الغربية، وجنوب لبنان. ولنكتف الآن بالحديث عن غزة التي هوجمت منذ عام 2004 وحتى الآن سبع مرات على شكل قصف جوي وبحري وأرضي عنيف.
إذا كان عدد الوحدات السكنية التي دُمرت يتجاوز 150 ألف وحدة، و20 مستشفى، وعلى الأقل 20 مدرسة، ومرافق وبنى تحتية وفوقية تابعة للمنظمات الدولية وبعض المنظمات غير الحكومية العاملة هناك. فكم تبلغ هذه الخسائر؟ إنها لن تقل عن 3 مليارات دولار إذا حسبنا أن كلفة الوحدة السكنية مائة ألف دولار، وكلف المرافق الأخرى.
ولكن الأهم من هذا كله هو مقتل ما يقارب عشرة آلاف طفل وامرأة، وحوالي خمسة آلاف رجل وجرح عشرات الألوف الذين سيحتاج الكثير منهم إلى علاج ومعالجة وتدريبات لكي يعتاد على فقدان أو شلل بعض أعضائه. والمعالجة النفسية ستكون هامة لإخراج آلاف المروعين من حالة الهلع والرعب الناجمة عن فظاعة التجربة.
وسوف تتحمل غزة أيضاً كلف إعادة البناء والإصلاح وترميم وبناء الطرق والجسور وشبكات المياه، والمجاري والاتصالات وغيرها. كل هذه الحقائق مجتمعة تؤكد أن الكلف المباشرة وغير المباشرة لأهل غزة وحدهم ربما تقارب 8 مليارات دولار على أقل تقدير.
ولكن السؤال الذي يطرح علينا الآن هو: هل كانت الهجمة التي شنتها حماس على المستعمرات والقواعد في غلاف غزة مستحقة لكل الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها الغزيون؟
حتى وقود المحركات والمولدات الكهربائية صار يعتبر سلاحاً عبر الوسائل الإعلانية (وليس الإعلامية) الصهيونية والإسرائيلية
هذا سؤال جدلي عاطفي، ولا يقف عند الأرقام. لأنك لو حسبت المكاسب التي حققتها القضية الفلسطينية من جراء ذلك، لقال الكثيرون: نعم إن كلفة استرداد القضية، واستنهاض الهمم، وإعادة الروح لبعض العرب تستحق كل هذا العناء وهذه التضحيات.
والأمر لا يقف عن هذا الحد، فالمطلوب من الآن فصاعداً وضع جدول لما بعد القتال الذي يبدو أنه لن يتوقف في القريب العاجل، وأن الذين يتخذون القرارات في واشنطن ولندن وتل أبيب لا يريدون إيقاف الحرب قريباً، ولكنهم يتكلمون عن هُدنٍ إنسانية تسمح بمرور المستلزمات والأدوية الطبية، والطعام والشراب.
وحتى وقود المحركات والمولدات الكهربائية صار يعتبر سلاحاً عبر الوسائل الإعلانية (وليس الإعلامية) الصهيونية والإسرائيلية، إذا طال أمد الحرب، فسوف يكون لها تبعاتها، وبعض الأشرطة المتداولة على شبكة الانترنت تأخذ أبعاداً قد تكون من صنع قائلها أو قائمة على تحليلات خاصة ولكنها مخيفة.
ولعل أهم هذه الاستقراءات تلك التي تقول إن بعض الدول العربية معرضة للاختفاء، وبعضها معرض للتقسيم، وبعضها قد يتوسع.
أما بالنسبة للأرض الفلسطينية، فهي ستواجه خطر التهجير واستمرار وجود الجيش الإسرائيلي في غزة لأمد غير محدد كما صرح نيتنياهو. ولكن الأهم أن كثيراً من فئة المثقفين العرب باتوا يتحدثون عن شرق أوسط جديد.
طبعاً سوف تبذل الدوائر الغربية والإسرائيلية جهوداً نحو إعادة رسم الخرائط في الدول العربية، وقد برزت عدة دراسات على امتداد السبعين عاماً الأخيرة تتنبأ باحتلال إسرائيل للضفة الغربية، وبسعيها لتهجير عدد من سكانها إلى الأردن.
أما بالنسبة لسورية فهي مرشحة لتقسيمها إلى ثلاثة أقاليم جنوب وساحل وشمال. واليمن مرشحة لذلك، وإلى حد ما العراق. والبعض يذهب إلى أبعد من ذلك.
سوف تبذل الدوائر الغربية والإسرائيلية جهوداً نحو إعادة رسم الخرائط في الدول العربية
وفي رأيي أن مثل هذه القرارات صعبة التنفيذ. ولكن القوى الغربية الدولية ومعها إسرائيل الباحثة عن دور وظيفي جديد كانت تعد العدة لمثل هذا الاحتمال منذ فترة.
أنظر إلى وضعنا منذ 11 / سبتمبر عام 2001 حين هدمت بناية مركز التجارة العالمي ببرجيها في مدينة نيويورك باصطدام طائرتين مدنيتين مخطوفتين بهما.
وكذلك حصل أمر مماثل لمبنى البنتاغون في مدينة واشنطن العاصمة. فقد هوجم العراق واحتل، وجاء الربيع العربي بخيباته وسقطاته وأدى إلى حروب أهلية وخلخلة للنظم وتهجير للملايين وقتل للألوف وضياع جيل بأكمله في بعض الدول.
وخرجوا علينا بنظرية أن التقسيمات التي حصلت في المشرق العربي في ضوء معاهدة سايكس/ بيكو قد أخذت مصالح الدول المستعمرة ( إنكلترا وفرنسا) بعين الاعتبار، ولم تأخذ في الحسبان رغبات الطوائف والإثنيات المختلفة. ولهذا لم يعرف الشرق العربي منذ ذلك الوقت هدوءاً أو استقراراً.
وخلقوا لنا إسرائيل عام 1948 ومن يومها صارت سلامة إسرائيل وأمنها هو الهدف الأساس والسبب في خلخلة الدول المحيطة بها.
قد يكون هذا المخطط ذو النفس الطويل يطبق الآن. فهل سنبقى نحن في الوطن العربي تحت طائلة التقطيع وتقسيم المُقسم، أم أننا سنفطن لهذا الأمر بكلمة موحدة لدرء المصائب وإن أمكن جلب المنافع؟
نحن بحاجة قطعاً إلى فجر جديد ليس على مقاس إسرائيل وأميركا وإنكلترا، بل يكون ما نريده لأنفسنا هو الحكم فيما تسعى لتحقيقه؟