بينما بدأت روسيا نشر صواريخ إسكندر طويلة المدى المضادة للطائرات في شبه جزيرة القرم ووسط تعثر مفاوضات جنيف، تتراكم السحب السوداء في السماء الأوروبية وتتضاءل فرص الحلول السلمية للأزمة الأوكرانية المتصاعدة، وبالتالي تهدد بحدوث مواجهة عسكرية بين واشنطن وحلفائها من أعضاء حلف شمال الأطلسي"ناتو" مع روسيا.
وسط هذه الأجواء القاتمة ينتاب القلق المستثمرين من مستقبل استثماراتهم في الأصول الروسية، ويضع بعضهم في حساباته احتمال تطور الأزمة إلى غزو روسي لأوكرانيا يفضي إلى فرض واشنطن وحلفائها في أوروبا عقوبات مالية واقتصادية صارمة على موسكو.
ووفق محللين فإن هذا القلق تزايد أمس الثلاثاء مع وصول شحنات أسلحة بريطانية إلى أوكرانيا وتصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في العاصمة الأوكرانية كييف، ودفع المستثمرين للهروب من سوق المال الروسية وأدواتها خاصة تلك المرتبطة بالدولار.
الأسهم الروسية تخسر أكثر من 8% من قيمتها يوم الثلاثاء، وضغوط شديدة على عملة الروبل
وحسب تقرير لصحيفة "موسكو تايمز"، التي تصدر باللغة الإنكليزية في العاصمة الروسية، خسرت أسهم الشركات الروسية الكبرى أكثر من 100 مليار دولار خلال الأسبوع الماضي، وتتواصل الخسائر هذا الأسبوع وسط احتمالات إقرار واشنطن لحظر اقتصادي ومالي مشدد على موسكو وشركاتها، خاصة تلك التابعة للحكومة الروسية أو تملك فيها حصصاً رئيسية. وخسر مؤشر الأسهم الروسية الرئيسي أكثر من 8% من قيمته يوم الثلاثاء.
وقال محللون إن الاضطرابات الجيوسياسية تنعكس بقوة على السوق الروسي، ويسعى وسطاء الأسهم للتخلص من الأصول الخطرة وبأي ثمن، خاصة تلك التي من المتوقع أن تشملها عقوبات الحظر الأميركية في حال تطور التوتر العسكري إلى نزاع.
وحسب "موسكو تايمز" خسر مؤشر "آر تي أس" الذي يقيس أداء الأسهم القيادية بالسوق الروسي نحو 15% من قيمته خلال الأسبوع الماضي، لترتفع خسارة الأسهم الروسية إلى نحو 105 مليارات دولار منذ الأسبوع الماضي.
وكان سهم "سبير بانك" الذي تملكه الحكومة الروسية أكبر الخاسرين في السوق، حيث خسر سهم البنك نحو 11% من قيمته يوم الثلاثاء.
ويرى مستثمرون أن البنك سيكون من بين الشركات التي ستتعرض لأقصى العقوبات في حال إقرار الولايات المتحدة وحلفائها لحظر مالي على روسيا.
وعلى الرغم من ارتفاع سعر النفط والغاز الطبيعي الذي تعتمد عليه روسيا في الحصول على الدولارات، تعرضت العملة الروسية الروبل لهبوط في سوق الصرف، حيث هبطت العملة الروسية بنسبة 5% يوم الثلاثاء إلى 76.5 روبلا مقابل الدولار.
وكانت تقارير غربية قد ذكرت أن واشنطن لا تفكر في حظر روسيا من نظام التسويات الدولية "سويفت" قد ساهمت في تقليل خسارة الروبل.
لكن سرعان ما تبخرت هذه الآمال حينما أكد البيت الأبيض في تصريحات مساء الثلاثاء، أن ذلك غير مستبعد.
يتوقع مستثمرون غربيون أن تتناول العقوبات الأميركية والغربية على روسيا في حال تصاعد التوتر العسكري، حرمان بنوكها من استخدام نظام "سويفت"
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي في مؤتمر صحافي، إن الإدارة الأميركية لا تستبعد إمكانية فصل البنوك الروسية عن نظام "سويفت" في حال "صعّدت" روسيا من عدوانها العسكري على أوكرانيا. وأشارت المتحدثة إلى أن واشنطن تواصل مشاوراتها مع شركائها في هذا الصدد.
وتابعت: "نواصل التشاور عن كثب مع شركائنا تجاه خيارات فرض عقوبات صارمة على موسكو في حال غزو روسيا لأوكرانيا".
من جانبه، أكد مسؤول في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن واشنطن لا تستبعد فصل روسيا عن نظام "سويفت" في حال التصعيد حول أوكرانيا.
وردا على طلب التعليق على تقارير بعض وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية حول أن واشنطن والاتحاد الأوروبي قررا استبعاد مثل هذا الخيار في التعامل مع روسيا، قال المسؤول إن "أي خيار لم يستبعد بعد".
وبالتالي يتوقع مستثمرون غربيون أن تتناول العقوبات الأميركية والغربية على روسيا في حال تصاعد التوتر العسكري، حرمان البنوك الروسية من استخدام نظام التسويات المالية الدولية "سويفت"، وكذلك الحد من صادرات روسيا من الغاز الطبيعي والخامات النفطية التي توفر نحو 50% من ميزانية الحكومة الروسية.
يذكر أن وكالة "أرغوس" المختصة بمتابعة أخبار النفط وأسعار الخامات قد ذكرت أن سعر نفط الأورال الروسي تجاوز سعر خام "برنت" القياسي العالمي.
وبلغ سعره في منطقة البحر المتوسط 88.92 دولارا مقابل البرميل عند الإغلاق يوم الثلاثاء، وفي شمال غربي أوروبا بلغ 87.52 دولارا للبرميل. وكان هذا الارتفاع في سعر النفط من الأسباب التي أوقفت إلى حد ما تدهور سعر صرف الروبل.
وعلى صعيد المتاجرة بالديون الروسية، أي سندات الدين الروسية في الأسواق الغربية، قال رئيس وحدة الديون في الأسواق الناشئة بشركة "أليناس غلوبال إنفسترز" اللندنية، ريتشارد هاوس "سيكون من المدهش إذا تحول التوتر العسكري الروسي على حدود أوكرانيا إلى صراع كامل بين الغرب وروسيا".
وقال في تعليقات نقلتها صحيفة "فاينانشيال تايمز": "حتى الآن لا تتوقع الأسواق حدوث ذلك ولكن في حال حدوثه، فإن الحظر المالي الأميركي على روسيا سيطبق بسرعة".
لكن تشير حركة المستثمرين السريعة في التخلص من الأصول الروسية إلى أن العديد منهم بات يضع في حساباته احتمال غزو روسيا لجزء من أوكرانيا.
ويتخوف المستثمرون الأجانب من حملة السندات الروسية من تراجع قيمة هذه الأصول وبسرعة من تداعيات حظر المتاجرة بها في السوق الثانوي ببورصات عالمية رئيسية مثل لندن وطوكيو ونيويورك.
ويرى الخبير هاوس أن أكبر تهديد للمستثمرين الأجانب في أدوات الدين الروسي، هو حظر الولايات المتحدة للمتاجرة بهذه السندات في السوق الثانوي، وهو ما سيعني تلقائياً حذفها من المؤشرات العالمية التي تقيس أداء أدوات الدين بالأسواق الناشئة.
يذكر أن العائد على سندات الخزانة الروسية أجل 10 سنوات المقومة بالروبل قد ارتفع إلى أعلى مستوى منذ العام 2016. وعادة ما يعكس ارتفاع العائد على السندات تراجع قيمتها خلافاً لسوق الأسهم.
يتخوف المستثمرون الأجانب من حملة السندات الروسية من تراجع قيمة هذه الأصول وبسرعة من تداعيات حظر المتاجرة بها في بورصات عالمية
وحسب تقارير غربية في لندن، أدى هروب المستثمرين من هذه السندات إلى إلغاء وزارة الخزانة الروسية لمزاد عليها أمس الأربعاء. وحسب مؤشر "فاينانشيال تايمز"، تراجع مؤشر سندات الدين الروسية المقومة بالدولار بنسبة 7.3% يوم الثلاثاء، وهذا أقل مستوى للمؤشر منذ العام 2020.
ورغم الموارد الضخمة التي تمتلكها روسيا، إذ إنها صاحبة أكبر مخزون احتياطي من الغاز الطبيعي وأكبر الصادرات، كما أنها كذلك أكبر منتج للنفط، ولديها احتياطات من الذهب تقدّر بنحو 8 آلاف طن متري، وأكبر دولة منتجة للألماس، إلا أنها دولة متواضعة من حيث حجمها الاقتصادي، إذ لا يتجاوز حجم الناتج المحلي الروسي 1.71 تريليون دولار في نهاية العام الماضي 2021. وروسيا دولة متخلفة تقنياً في الصناعات المدنية وتقنيات الذكاء الصناعي والهواتف النقالة والسيارات.
وبالتالي، يرى محللون أن الاقتصاد الروسي يعدّ من الاقتصادات الهشة التي ليست لديها مقاومة للضغوط الخارجية، خاصة ضغوط الحظر المشدد الذي تخطط له الولايات المتحدة في حال غزو أوكرانيا.
ويرى خبراء أن الحظر الغربي على روسيا سيدخل الشركات الروسية المقترضة بالدولار والعملات الصعبة في مخاطر كبرى، من بينها التخلف عن السداد وربما الإفلاس، إلى جانب ارتفاع كلف التأمين عليها في الأسواق العالمية.
وإلى جانب حظر التعامل في أصول الدين الروسي تخطط الولايات المتحدة وحلفاؤها بالدول الرأسمالية الكبرى لإنزال أقصى العقوبات المالية.
وحتى الآن تعتمد روسيا على حليفها الصين في التخفيف من الحظر المالي والاقتصادي المتوقع عليها. ورغم أن بكين حليف قوي لروسيا، ولكنها ربما لا ترغب في خوض معركة اقتصادية مع واشنطن، في وقت تواجه فيه تراجع معدل النمو الاقتصادي وتداعيات متحورات كورونا وأزمة القطاع العقاري.