شكّل انقلاب غينيا تحدياً عالمياً جديداً أضيف إلى سلسلة التحديات التي خلفها فيروس كورونا وتداعياته على الاقتصاد العالمي، والتي تمثلت إجمالاً في تأثيراته السلبية على سلاسل الإمداد والتوريد في العالم، بالإضافة إلى الأزمات المتلاحقة التي بات العالم يعانيها وربما تحتاج إلى أكثر من سنة قادمة للتغلب عليها، مثل أزمة ارتفاع أسعار الشحن، أو أزمة الرقائق الإلكترونية التي باتت أكثر شراسة وتهدد بإيقاف جزئي لبعض المصانع حول العالم.
والغريب هذه المرة أن التحدي العالمي الجديد والذي يعبر كما هو حال الأزمات السابقة عن عدم ترابط وتكامل الاقتصاد العالمي أتي من دويلة صغيرة، نسمع بها أحيانا في بعض مباريات كرة القدم ولا نعرف عنها الكثير.
فغينيا، هذه الرقعة الجغرافية الصغيرة والتي تقع في الغرب الأفريقي، ولا تتعدي مساحتها 246 ألف كيلومتر مربع، وتمتد على شكل هلال مقوس يطل جزء منه على المحيط الأطلسي، ملأت أخبارها الصحافة العالمية في أعقاب استيلاء جنود النخبة بقيادة العقيد، مامادي دومبويا، على السلطة في 5 أيلول/سبتمبر الحالي.
لم ينبع انشغال الصحافة بالانقلاب الغيني من اهتمام بالأوضاع الديمقراطية الغينية ولا بالرئيس المخلوع، بل من المؤكد أن الدوافع الاقتصادية هي بيت القصيد في الاهتمام المفاجئ
لم ينبع انشغال الصحافة بالانقلاب الغيني من اهتمام بالأوضاع الديمقراطية الغينية ولا بالرئيس المخلوع ألفا كوندي، ولا حتى بتزايد وتيرة الانقلابات في القارة السمراء مؤخرا بعد هدوء ملحوظ انخفضت فيه أعداد الانقلابات إلى اثنين فقط في المتوسط خلال العشرين عاما الأخيرة مقارنة بما يزيد عن أربع محاولات انقلاب في المتوسط خلال الفترة منذ عام 1960 وحتى عام 2000، بل من المؤكد أن الدوافع الاقتصادية هي بيت القصيد في هذا الاهتمام المفاجئ.
من الملاحظ كذلك أنه بعد الانقلاب الغيني مباشرة قفزت الأسعار العالمية للألومنيوم إلى أعلى مستوياتها خلال العشرة أعوام الأخيرة، حيث صعدت عقود الألمنيوم القياسية في بورصة لندن للمعادن 1.6% لتبلغ 2771.00 دولارا للطن، بعد أن لامست أعلى مستوى لها منذ مايو/أيار 2011 عند 2782 دولارا، كما تخطت أسعار العقود الآجلة 3400 دولار للطن.
وتقف المخاوف من تأثر الإمدادات الغينية جراء الانقلاب العسكري وراء هذا الارتفاع الكبير في الأسعار، لا سيما أن غينيا تنتج نحو ربع البوكسيت (المادة المستخدمة في انتاج الألومنيوم) في العالم، وهو الأمر الذي أدى إلى صعود أسعار الألومنيوم المستورد من غينيا في الصين إلى أعلى مستوى له في حوالي 18 شهرا، حيث تعد الصين واحدة من أكبر المستوردين للخام الغيني، حيث تستورد 55% من احتياجاتها من البوكسيت الغيني.
غينيا كانت تمثل جزءًا صغيرًا من إنتاج البوكسيت العالمي عندما تولى الرئيس كوندي منصبه في عام 2010، لكن الحال تغير تماما بعد إبرامه صفقة مع الصين في عام 2017، وافقت بكين بمقتضاها على إقراض كوناكري 20 مليار دولار للبنية التحتية خلال العقدين المقبلين مقابل امتيازات البوكسيت، وحاليا، تقوم أكثر من 20 شركة عالمية بالتعدين في البلاد، بما في ذلك شركات من الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا.
وعلى النقيض من تلك الأهمية المتزايدة، أشار تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن التعدين هدد آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية، وكذلك إمدادات المياه، في مناطق تعيش فيها معظم العائلات على الزراعة، وهي الذرائع التي تبناها المنقلبون في تبرير الانقلاب، بالإضافة إلى أن خيرات التعدين لم تتساقط إلا على قلة من الشعب الغيني.
تعتمد العديد من دول العالم على استيراد البوكسيت من غينيا لتصنيع الألومنيوم، خصوصاً روسيا والصين، حيث تبلغ احتياطيات البوكسيت الغينية المؤكدة نحو 20 مليار طن
وتعتمد العديد من دول العالم على استيراد البوكسيت من غينيا لتصنيع الألومنيوم، خصوصاً روسيا والصين، حيث تبلغ احتياطيات البوكسيت الغينية المؤكدة نحو 20 مليار طن، حسب بيانات وكالة "بلومبيرغ"، وتتنافس غينيا في صادرات الألومنيوم العالمي مع أستراليا باعتبارها المورد الرئيسي للبوكسيت إلى الصين، إذ بلغ حجم الصادرات الغينية من البوكسيت 84.2 مليون طن العام الماضي، وفقًا للحكومة الغينية.
وفي تصريحات صحافية، عبّر محلل البوكسيت الأسترالي، آلان كلارك، عن مخاوفه من الأوضاع الغينية بقوله "يمكن أن تؤثر حالة عدم اليقين في غينيا، وتضع ضغطا على التكلفة على أي شيء يحتوي على الألومنيوم الأساسي، وهذا يعني أن المستهلك سيدفع أكثر".
كما أكد بيوتر ليخوليتوف، السكرتير الصحافي لرابطة الألومنيوم الروسية، أن الوضع في غينيا يحمل مخاطر كبيرة على صناعة الألومنيوم الروسية والعالمية على حد سواء، حيث تحتل غينيا المرتبة الأولى في العالم من حيث احتياطيات البوكسيت، بنحو 26.4% من الاحتياطيات العالمية و20% من الإنتاج العالمي.
ومن المعروف أن امدادات الألومنيوم تدخل إلى العديد من الصناعات الهامة مثل صناعة السيارات والأجهزة الإلكترونية والانشاءات علاوة على مواد التعبئة والتغليف، حيث يستحوذ قطاع السيارات وحده على 23% من استهلاك الألومنيوم العالمي سنويا، وهي نفس النسبة التي يحتاجها قطاع المعدات والأجهزة الكهربائية، في حين تصل النسبة إلى 25% للإنشاءات و8% فقط للتعبئة والتغليف.
يستحوذ قطاع السيارات وحده على 23% من استهلاك الألومنيوم العالمي سنويا، وهي نفس النسبة التي يحتاجها قطاع المعدات والأجهزة الكهربائية، في حين تصل النسبة إلى 25% للإنشاءات و8% فقط للتعبئة والتغليف
وتعني النسب السابقة أن تحديات الإمدادات الغينية قد تمتد لسلسلة عريضة من المنتجات، التي ربما تمتد من أكبر منتج حتى علب المياه الغازية، لتساهم في المزيد من تعظيم الأزمات التي سببتها سلسلة الإغلاقات الناجمة عن وباء كورونا والتي لا تزال الشعوب تعاني منها حتى الآن في شكل ارتفاعات متوالية في الأسعار والتي فاقمتها الحرائق والسيول والفيضانات الناجمة عن التغيرات المناخية.
وخلافا لحالة القلق التي انتابت الصناعة العالمية جراء الحالة الغينية، يبدو أن شركة مصر للألومنيوم هي الوحيدة في العالم التي تعيش أياما سعيدة بعد الارتفاع المتوالي لأسعار الخام.
فالشركة التي حققت خسائر بقيمة 1.7 مليار جنيه في العام المالي 2019/2020، وخسارة بنحو 347 مليون جنيه في التسعة أشهر الأولي من العام الحالي، تمتلك كميات كبيرة من احتياطات الخام، والتي تعول عليها كثيرا في الانتقال إلى الربحية بعد أعوامها العجاف السابقة، وهو الأمر الذي يدعمه كثيراً ارتفاع الأسعار في العالم.
وأضحت العولمة جزءاً راسخاً من العالم الحديث، بتقديمها للعديد من الفوائد والمزايا التي شكلت نمطاً اعتيادياً لحياة الأفراد اليومية، يصعب الاستغناء عنه في كل انحاء العالم.
ومن الواضح أن اتباع سياسات العولمة توسع فوائد الانفتاح والتكامل الدولي، ولكنها في نفس الوقت ذات آثار جانبية سلبية، تبدت ملامحها بشدة خلال أزمة كورونا، وبرهنت الأزمة الغينية الأخيرة على تعاظم هذه الجوانب السلبية.
ربما تختلف وجهات نظر الاستراتيجيين حول تطور الاقتصاد العالمي في أعقاب فيروس كورونا لا سيما في شكل وعمق التغيرات التي ستطرأ على العولمة، سواء بالاتجاه نحو القومية أو الأقلمة أو حتى درجة ما بين الحالتين.
لكن بمرور الوقت تثبت الأزمات المتلاحقة أن تغيراً ما قد يحدث لتلافي الآثار السلبية المتلاحقة، وأيا كان شكل وعمق التغيير القادم فالسؤال المهم: هل نحن مستعدون في العالم العربي لمثل هذا التغيير، وهل سننتقل إلى حال الفاعل، أم نظل كما نحن في حال المفعول به؟