حوّلت بعض البنوك المركزية الغربية الكبرى أسواق المال في الاقتصادات الرأسمالية إلى كازينوهات للمضاربة، بل وباتت تلك البنوك تحمي البورصات عبر ضخ التريليونات من الدولارات واليوروهات والينات المطبوعة، أو تلك التي تحرّكها بكبسة زر واحد إلى السوق.
وبالتالي، ربما تخرج الدول الغربية بعد جائحة كورونا باقتصاد من الصعب توصيفه في خانة الاقتصادات الرأسمالية التي تدار بقوى السوق، لأن البنوك المركزية باتت شبه محتكرة لحركة السوق. وتدريجياً، بات منهج "السوق الحر"، نظرية تدرّس في الجامعات والمدارس فقط، لكن المطبق عملياً في الأسواق الغربية هو نهج "التخطيط المركزي" للاقتصاد، الذي كان معمولاً به في روسيا والنظم الشيوعية.
ووفق محلليين، فإن البنوك المركزية باتت تحتكر تدريجياً أسواق المال عبر أموال لا تكلفها مخاطر أو خسائر، وإنما تجني من خلالها أرباحاً في دورات الانتعاش الاقتصادي أو ارتفاع أسعار الأوراق المالية في البورصات.
وكانت االبنوك المركزية الرأسمالية قبل 20 عاماً لاتتدخل في سوق المال ولا تشتري السندات والأسهم، لأن ذلك يتعارض مع مبادئ السوق الحر التي تخضع لقوانين المنافسة الحرة والعرض والطلب.
في هذا الشأن، تشير إحصائيات يابانية إلى أن البنك المركزي الياباني حصد أرباحاً بلغت قيمتها 130 مليار دولار، خلال العام الماضي، من حصة الأسهم التي يملكها في سوق طوكيو.
وخلال عقد من الزمان، واصل البنك المركزي الياباني التدخل في بورصة طوكيو، عبر الضخ المتواصل للتريليونات، لتبلغ حيازته حتى نهاية العام الماضي نحو 7% من إجمالي الأسهم المتداولة في سوق طوكيو، بناء على الأرقام التي نشرتها صحيفة "وول ستريت جورنال" قبل يومين.
ومع ارتفاع أسهم اليابان إلى أعلى مستوياتها خلال العام الجاري، يتجه البنك المركزي الياباني إلى حصد المزيد من الأرباح. وعلى الرغم من أن هذا البنك يتعرض لمزيد من الانتقادات من قبل أعضاء البرلمان والاقتصاديين داخل اليابان، إلا أنه من غير المتوقع أن يتراجع عن التدخل وزيادة مشترياته من الأسهم اليابانية.
في شأن الانتقادات، يقول الاقتصادي الياباني في معهد ميزهو للأبحاث، كوزو موما، "من غير السليم أن يصبح البنك المركزي أكبر مالك للأسهم، ويتزايد نفوذه في سوق يعد من دعائم الأسس الرأسمالية".
لكن بنك اليابان المركزي ليس وحده من بات من كبار المضاربين في سوق الأسهم بدلاً من حماية حرية السوق والاحتفاظ بدور إشرافي في رقابة السياسة النقدية وتنظيم أداء أسواق المال.
فالبنك المركزي السويسري "البنك الوطني السويسري - أس أن بي" هو الآخر، تقدّر استثماراته في الأسهم بنحو 914 مليار فرنك "نحو 984 مليار دولار" مستثمرة في أسواق المال المحلية والعالمية.
وحصد البنك المركزي السويسري أرباحاً بلغت 50.2 مليار دولار من استثماراته في البورصة الأميركية، في السنة المالية الماضية التي انتهت في مارس/آذار الماضي 2020. ومن المتوقع أن ترتفع أرباحه مع الارتفاع الكبير الذي شهدته الأسهم اليابانية خلال العام الماضي وبداية العام الجاري، رغم جائحة كورونا.
وفي ذات الصدد، تشير البيانات الأوروبية إلى أن البنك المركزي الأوروبي يملك 2.1 تريليون يورو "نحو 2.52 تريليون دولار" من السندات الحكومية في دول اليورو الـ19، وذلك إضافة إلى 270 مليار يورو "نحو 324 مليار دولار" في سندات الشركات الأوروبية، وذلك حسب بياناته الأخيرة لعام 2020.
وكل من هذه البنوك المركزية التي تعد من قيادات النظام الرأسمالي و"السوق الحر"، لديها مبرراتها الخاصة لعمليات التدخل المكثف في أسواق المال وتشويه النظام الرأسمالي، حسب مراقبين.
فمصرف الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي"، يبرر تدخّله في السوق بحجة إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الانهيار، إذ أن القطاع المالي في أميركا يشكل العصب الحي للاقتصاد، ويمثل حجمه من حيث السندات والأسهم أكثر من 7 أضعاف الناتج المحلي في الولايات المتحدة. وبالتالي، يرى البنك المركزي الأميركي أن ترك سوق المال الأميركي للاضطرابات سيعني تبخر الاقتصاد الأميركي والتسبب في أزمة مالية جديدة، ربما تهز الاقتصاد العالمي بأكمله.
من جانبه، يبرر المركزي الأوروبي مشترياته بحجة أن دول اليورو الضعيفة يمكن أن تتعرض للإفلاس ما لم يواصل شراء السندات الحكومية في دول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا.
أما البنك المركزي السويسري، فيقول إن تدفق رأس المال الأجنبي على البنوك التجارية السويسرية رفع سعر صرف الفرنك السويسري إلى مستويات عالية جداً مقابل كل من اليورو والدولار، وإن هذا المستوى المرتفع من سعر صرف الفرنك أضر بالصناعة السويسرية وصادرات البلاد.
وبالتالي، يرى مسؤولون في البنك المركزي السويسري ضرورة التدخل في السوق، عبر شراء الأصول الدولارية والأوروبية بالفرنكات السويسرية في أسواق المال، لخفض قيمة العملة الوطنية وتحريك الصادرات ورفع القيمة الشرائية للمنتجات المحلية، إذ أن الفرنك القوي جعل السويسريين يتسوقون حتى مستلزماتهم المعيشية من إيطاليا ودول أوروبية أخرى مجاورة.
وعلى الرغم من المبررات التي تسوقها البنوك المركزية للتدخل المكثف في السوق، وهي مبررات قد تكون صحيحة ولكنها في النهاية شوّهت "السوق الحر"، وقد تنهي تدريجياً النظام المالي والنقدي العالمي القائم حالياً، كما يرى اقتصاديون وخبراء اجتماع، فإن هذه السياسات أفرزت مجموعة من السلبيات في المجتمعات الغربية، إذ أنها زادت ثروة من يملك المال وأفقرت من يعيشون على الدخل الشهري. وتبعاً لذلك، زادت من الفجوة بين الفقراء والأثرياء وضربت الطبقة الوسطى. وبالتالي، ربما تقود تدريجياً إلى عدم استقرار سياسي واجتماعي في الدول الغربية، وفق مصادر اقتصادية.