في سابقة هي الأولى من نوعها، قفز سعر صرف الدولار إلى نحو سبعة أضعافه رسمياً أمام الجنيه السوداني، الأحد، فور إعلان الحكومة الانتقالية تعويم سعر الصرف، من أجل معالجة الاختلالات الاقتصادية وكبح السوق السوداء، بينما حذر مصرفيون وخبراء اقتصاد من أن تؤدي هذه الخطوة إلى ارتفاع حاد في أسعار الوقود ومختلف السلع الاستهلاكية، في البلد الذي يشهد بالأساس انفلاتاً في معدل التضخم، ما ينذر بردة فعل شعبية تشعل غضباً جديداً مع تردي الظروف المعيشية.
ولطالما كان تعويم الجنيه السوداني مطلبا رئيسياً من قبل صندوق النقد الدولي، الذي حدد في سبتمبر/ أيلول الماضي موعداً نهائياً للحكومة للانتقال إلى "سعر صرف موحد وفق آليات السوق"، إلا أن الخرطوم اعتبرت القرار داخلياً ولم تفرضه أي جهة خارجية.
وذكرت مصادر مصرفية، أن بنك السودان المركزي، حدد أمس، سعر صرف أساسياً جديداً عند 375 جنيها سودانيا للدولار، بينما كان سعر الصرف الرسمي في السابق 55 جنيها مقابل الدولار، ما يظهر تهاويا للعملة السودانية بنحو 581% دفعة واحدة، فيما يقترب السعر الرسمي الجديد من تعاملات السوق السوداء التي كانت تتراوح في الآونة الأخيرة بين 350 و400 جنيه للدولار.
وقال وزير المالية، جبريل إبراهيم، في مؤتمر صحافي، إن توحيد سعر الصرف، هو قرار داخلي اتخذته الحكومة من أجل المصلحة العامة لمعالجة الاختلالات الاقتصادية الموروثة، ولم تفرضه أي جهة خارجية.
وأضاف إبراهيم أن القرار اتخذ في ظرف دولي وإقليمي مهم، وأن بعض الدول والمؤسسات الدولية، شجعت الحكومة على اتخاذ القرار لجهة أنه يُساعد في معالجة ديون السودان وإعفائها، والحصول على قروض ومنح جديدة.
وأشار إلى أن السودان استلم عدداً من المنح وأخرى في طريقها للاستلام، لكنه فضل عدم تفصيلها، لافتا إلى أن بريطانيا وحدها، تعهدت بدفع 400 مليون دولار، لسداد ديون السودان لدى بنك التنمية الأفريقي.
وفي السياق ذاته، ذكر البنك المركزي في بيان له الأحد، أن خطوة توحيد سعر الصرف، جاءت بغرض تحويل الموارد من السوق الموازي إلى السوق الرسمي، واستقطاب تحويلات السودانيين العاملين في الخارج عبر القنوات الرسمية، واستقطاب تدفقات الاستثمار الأجنبي، وتطبيع العلاقات مع مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية والدول الصديقة بما يضمن استقطاب تدفقات المنح والقروض من هذه الجهات، إضافة إلى تحفيز المنتجين والمصدرين والقطاع الخاص بإعطائهم سعر الصرف المجزي والحد من تهريب السلع والعملات.
وأضاف البيان أن الاقتصاد السوداني ظل يعاني من اختلالات هيكلية داخلية وخارجية، وارتفاع معدلات التضخم، وتعدد أسعار الصرف، والتدهور المستمر في سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية.
ورحبت السفارة الأميركية في الخرطوم، بقرار السودان تعويم سعر الصرف. واعتبرت في تعميم صحافي، أن القرار يمهد الطريق لتخفيف الديون، ويزيد بشكل كبير من تأثير المساعدة الدولية، كما سيزيد فرص الاستثمار الدولي في السودان، وأن الشركات المحلية والأجنبية لن تواجه بعد الآن صعوبات في ممارسة الأعمال التجارية بسبب سعر الصرف المزدوج.
والتعويم هو أجرأ قرار اقتصادي تتخذه الحكومة الانتقالية التي حكمت السودان بعد إطاحة الرئيس عمر البشير في إبريل/ نيسان 2019، إثر احتجاجات شعبية على تردي الظروف المعيشية. ومنذ ذلك الحين، تعد البلاد على طريق هش نحو الديمقراطية مع وجود تحديات اقتصادية مروعة تمثل تهديداً كبيراً لهذا التحول.
ووفق مراقبين فإنه من المحتمل أن يثير تعويم الجنيه ردة فعل شعبية مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات استجابةً لانخفاض قيمة الجنيه والارتفاع المحتمل في أسعار الوقود والسلع الأساسية الأخرى، بينما كانت هناك بالفعل احتجاجات متفرقة على الظروف المعيشية السيئة في الأسبوعين الماضيين في العاصمة الخرطوم وأجزاء أخرى من البلاد.
لكن وزير المالية قال في المؤتمر الصحافي، إن وزارته جاهزة لاتخاذ تدابير لمواجهة ارتفاع الأسعار، والاستمرار في دعم الأسرة الفقيرة، بالإضافة إلى دعم السلع الاستراتيجية وتوفيرها عبر برنامج التعاونيات بواسطة وزارة التجارة.
بيد أن البلد يعاني من أزمات متجددة في الخبز والطحين والوقود وغاز الطهي بجانب ارتفاع مضطرد في معدلات التضخم. والأسبوع الماضي، أظهرت بيانات رسمية ارتفاع معدل التضخم السنوي إلى 304.33% في يناير/كانون الثاني الماضي، من 269.33% في ديسمبر/ كانون الأول السابق له.
ويعيش المواطن السوداني أوضاعا اقتصادية صعبة، إثر التدهور المستمر للاقتصاد القومي وعدم مقدرة الحكومة الانتقالية على السيطرة على الوضع المعيشي المتأزم.
وتظهر البيانات الرسمية تسارع وتيرة ارتفاع التضخم السنوي منذ بداية العام الماضي، حيث بلغ في يناير/ كانون الثاني 2020 نحو 64.2% قبل أن يسجل قفزات متتالية دون توقف.
وحذر مديرو مصارف سابقون وخبراء اقتصاد من مخاطر تعويم سعر الجنيه، حال عدم وجود احتياطي نقدي كاف للتدخل متى ما اقتضت الضرورة للحفاظ على توجيه سعر الصرف وفق متطلبات العرض والطلب.
وقال المدير السابق لبنك البركة بالخرطوم عبدالله خيري لـ"العربي الجديد" إنه كان على الحكومة الانتقالية إجراء استعدادات استباقية بتوفير رصيد مقدر من العملة الأجنبية تمكن البنك المركزي من التدخل بضخ عملات أجنبية للسوق قبل اتخاذ قرار تعويم سعر الصرف، مشيرا إلى أنه من دون هذه الاستعدادات فإن هناك مخاطر عالية، منها تخطي الدولار حاجز الـ 400 جنيه، ما يؤدي إلى صعوبة السيطرة عليه.
ويبدو أن السوق السوداء قد التزمت الترقب لما ستسفر عنه تحركات الأسعار عقب القرار الحكومي. إذ قال متعاملون لـ"العربي الجديد" إن عمليات البيع والشراء في السوق الموازية توقفت حيث لم تسجل العملات الأجنبية طلبا من قبل المواطنين والتجار.
وفي مقابل التحذيرات من تداعيات تعويم الجنيه في ظل موجات الغلاء التي تشهدها البلاد بالأساس، اعتبر مسؤولون سابقون وخبراء اقتصاد أن القرار حتمي وتقتضيه الظروف الاقتصادية للسودان، لكنه يستلزم تحقيق آليات تقلل من آثاره السلبية.
وقال علي خالد الفويل الخبير المصرفي لـ"العربي الجديد" إن "قرار التعويم سليم، غير أن تنفيذه يحتاج لآليات ضبط معينة تتمثل في ضرورة توفير احتياطي نقدي كاف للتدخل للمحافظة على توجيه السعر حسب مقتضيات العرض والطلب لمعالجة الاختلال في الهيكل الاقتصادي والعجز في الميزان التجاري وضبط الاستدانة من النظام المصرفي في الحدود الآمنة والتحكم في العملات النقدية ما يساعد على ضبط انفلات التضخم"، مضيفا أنه في حال عدم وجود احتياطي نقدي كاف لضبط العرض والطلب فان ذلك يقود لمخاطر اقتصادية ومالية.
يعاني السودان منذ سنوات من مجموعة من المشاكل الاقتصادية، بما في ذلك عجز كبير في الميزانية، وارتفاع الديون الخارجية التي تقدر بنحو 70 مليار دولار، وتآكل في احتياطي النقد الأجنبي. وكان البلد قد غرق في أزمة اقتصادية عندما انفصل الجنوب الغني بالنفط في عام 2011 بعد عقود من الحرب، آخذاً معه أكثر من نصف الإيرادات العامة و95% من الصادرات.
ووصف وزير المالية السابق، إبراهيم البدوي، نظام سعر الصرف "المعوَم" بأنه أفضل خيار متاح لإعادة التوازن للعملة الوطنية وتقليص العجز الهيكلي في الحساب الجاري وتوحيد سعر الصرف والقضاء على السوق الموازي للنقد الأجنبي في ظل قلة الاحتياطي المتاح للبنك المركزي.
وقال البدوي في تصريحات، أمس: " شخصياً كنت قد سعيت، بل ناضلت، من أجل هذا الإصلاح المحوري منذ منتصف العام الماضي عندما كنت في وزارة المالية، وبعد مغادرتي الحكومة كتبت بإسهاب عن ضرورة اعتماد التعويم"، لكنه حذر مما وصفها بمخاطر "السقوط الحر لسعر الصرف والتضخم الانفجاري" إذا لم يتم استيفاء شرطين أساسيين في عملية التعويم.
وأوضح أن الشرط الأول يتعلق بمنع تمويل المصروفات وعجز الموازنة بصورة عامة عن طريق الاستدانة من بنك السودان المركزي بصورة عشوائية وغير مبرمجة، وهذا يتطلب تقليص عجز الموازنة إلى أقصى حد، وكذلك توفير قنوات تمويلية غير تضخمية لإدارة السيولة، والثاني تحول الدولة إلى بائع صاف للنقد الأجنبي لتمويل واردات السلع الاستراتيجية بواسطة القطاع الخاص.