بدا المشهد في سوق الطاقة أكثر ارتباكاً ما ينذر بأزمة تطاول الإمدادات بشكل أعمق في الفترة المقبلة، ما يدفع أسعار النفط والغاز إلى مواصلة الصعود رغم التباطؤ الاقتصادي الذي تشهده مناطق واسعة من العالم وتصل إلى حد الركود في أجزاء فاعلة منه.
دخلت حرب الطاقة بين أوروبا وروسيا منعطفاً جديداً، أمس الأربعاء، بعد موافقة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، على فرض الحزمة الثامنة من العقوبات ضد موسكو، والتي تتضمن فرض سقف على أسعار النفط الروسي على مراحل يتوقع تطبيقها بنهاية العام الجاري، بينما هدد الرئيس الروسي مؤخراً بالرد على هذه الخطوة بقطع إمدادات النفط والغاز نهائياً عن أوروبا، ما يؤجج نار الأسعار في جبهة مشتعلة بالأساس منذ أكثر من سبعة أشهر.
وفي جبهة أخرى، تحرك تحالف "أوبك+"، أمس، لإقرار خفض كبير للإنتاج بواقع مليوني برميل يومياً، لمواجهة تداعيات التباطؤ الاقتصادي العالمي على الطلب، الذي تأثر بفعل السياسات النقدية المتشددة من جانب البنوك المركزية العالمية بقيادة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لكبح التضخم وقوة الدولار، ما يعزز كذلك من اندفاع أسعار الخام للصعود نحو مستويات قياسية جديدة خلال الأشهر المقبلة.
رد أوروبي قوي
وبحسب بيان صادر عن جمهورية التشيك التي تتولى حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، فإنّ سفراء الدول الأعضاء أجمعوا سياسياً على فرض حزمة جديدة من العقوبات على روسيا، وصفت بأنّها "رد قوي" على ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعض مناطق أوكرانيا.
وتنصّ العقوبات المقترحة من قبل المفوضية الأوروبية، على فرض سقف لأسعار النفط الروسي، وهو المقترح الذي سبق أن أقرت قمة مجموعة السبع خطوطه العريضة في اجتماعها بألمانيا مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، وباتت بانتظار الموافقة النهائية من واشنطن لتحديد موعد إقراره وتحديد السعر المتوقع للخامات السعرية.
ويستهدف مشروع العقوبات على الطاقة الروسية ضرب دخل النفط الروسي الذي يشكل التمويل الرئيسي للمجهود الحربي الروسي في أوكرانيا، بينما أكد الرئيس الروسي في كلمته خلال منتدى الشرق الاقتصادي الشهر الماضي أنّ روسيا لن تلتزم بعقود تصدير النفط والغاز في حال تحديد سقف للأسعار، مهددا بقطع الإمدادات عن أوروبا نهائياً.
وتقوم الفكرة على وضع حد أقصى للسعر الذي يمكن للشاحنين من دول مجموعة السبع أن ينقلوا فيه النفط الروسي بشكل قانوني إلى دول في آسيا وأفريقيا.
ووفق ما نقلت صحيفة وول ستريت جورنال، عن مساعد وزيرة الخزانة الأميركية للسياسة الاقتصادية، بن هاريس، في جنيف، الثلاثاء، فإنّ عقوبات مجموعة السبع ستستهدف في البداية الخام الروسي، ثم تركز في وقت لاحق على وقود الديزل ثم منتجات النافتا.
وحسب معهد بروغيل للدراسات الاقتصادية، فإن سقف السعر المحدد لخام الأورال الروسي سيتراوح بين 40 إلى 60 دولاراً للبرميل، مشيرا في تقرير له إلى أن تحديد السعر في هذه الحدود سيساهم في خفض المداخيل التي تحصل عليها روسيا من النفط إلى أقصى حد ممكن، وفي ذات الوقت تحفز الشركات النفطية الروسية على مواصلة الإنتاج.
ويتوقع معهد بروغيل أن تستخدم القوى الغربية نفوذها على شركات النقل البحري والبنوك التجارية وشركات التأمين التي تقع معظمها في بريطانيا وأميركا في فرض تنفيذ العقوبات.
غلاء الوقود يدفع أوروبا للركود
لكن هناك مخاوف من تداعيات تنفيذ العقوبات على الخامات الروسية على النمو الاقتصادي في أوروبا ومنطقة آسيا الوسطى. لذا حذر البنك الدولي أخيراً، من أنّ العقوبات قد تدفع أوروبا نحو الركود بسبب غلاء أسعار الوقود.
وتبدو الخطوة الغربية لفرض سقف على سعر النفط الروسي محفوفة بالمخاطر أيضا، لا سيما في ظل موافقة تحالف "أوبك+" أمس على خفض الإنتاج بمليوني برميل يوميا، ليمحو بذلك الزيادات المتتالية التي أقرها على مدار أشهر ماضية من العام الجاري قبل الخفض المحدود الذي أقره في سبتمبر/ أيلول الماضي بواقع 100 ألف برميل فقط.
ويأتي قرار "أوبك+" للحفاظ على استقرار الأسعار في مواجهة توقعات تراجع الطلب، بفعل السياسات النقدية للبنوك المركزية العالمية بقيادة الولايات المتحدة والتي تستهدف كبح التضخم الجامح، بينما تدفع هذه السياسة نحو ركود عالمي.
وجاء الخفض الكبير للإنتاج رغم الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على دول "أوبك+" لمنعها من المضي قدماً في مثل هذا الخفض، والذي يأتي في وقت غير مناسب للرئيس الأميركي جو يايدن، الذي يحاول السيطرة على ارتفاع الأسعار قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وحدوث أي قفزات كبيرة في أسعار النفط تنذر بزيادة أسعار البنزين، وهي واحدة من أبرز علامات التضخم بالنسبة للناخبين في الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدي إلى الإضرار بفرص الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي.
وسارع بايدن إلى التباهي في أغسطس/آب الماضي بمواجهته أحد أخطر خصومه السياسيين وهو ارتفاع أسعار البنزين، إلا أن ذلك كان سابقاً للأوان وفق وكالة بلومبيرغ، مشيرة إلى أنه بعد مرور أكثر من شهر على نشر بايدن تغريدة على تويتر يتحدث فيها عن أنه تغلّب على "زيادة أسعار بوتين عند مضخة البنزين"، فإنه يواجه اليوم قوى لا تستطيع حتى الحكومة الأميركية مضاهاتها.
شعبية بايدن مهددة
ونقلت بلومبيرغ عن كيفن بوك، العضو المنتدب لشركة الأبحاث "كلير فيو إنرجي بارتنرز" قوله إن "ارتفاع الأسعار يعتبر خبراً سيئاً بالنسبةِ إلى الديمقراطيين. وهو لا يساعد في دعم شعبية الرئيس وربما لا يدعم موقف الديمقراطيين في مراكز الاقتراع".
ورغم أنّ الإدارة الأميركية وضعت خططاً في الربيع تهدف إلى طرح ما يصل إلى مليون برميل من النفط يومياً لمدة ستة أشهر، أو ما مجموعه 180 مليون برميل في الأسواق من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي، فإنّ قدرة يايدن على ضخ المزيد في الحالات غير طارئة ليست بلا حدود، فالالتزامات الأميركية والدولية تشترط حدوداً دنيا لكمية الاحتياطي بنحو 250 مليون برميل. لكن هناك من يرى أنه ما يزال هناك مجال لضخ كميات أكبر لا سيما أنّ الاحتياطي لا يزال عند نحو 416.4 مليون برميل مخبأة في كهوف الملح تحت الأرض، غير أن هذا الأمر سؤدي إلى خفض مؤقت للأسعار قبل أن تعاود الصعود بشراسة في أوقات لاحقة.
ووفق بنوك استثمار عالمية، فإنّ الطلب على النفط لا يزال قوياً على عكس ما يشاع من تباطؤ الطلب، ما يؤشر إلى ارتفاع الأسعار بين 95 دولاراً للبرميل و125 دولاراً بنهاية العام الجاري. وتوقع بنك مورغان ستانلي الاستثماري الأميركي نهاية سبتمبر/أيلول أن يرتفع سعر خام برنت في لندن إلى 95 دولاراً للبرميل في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2022، بينما توقع بنك "جيه بي مورغان"، وصول السعر إلى 101 دولار للبرميل، ورجح بنك "غولدمان ساكس" بلوغ مستوى 125 دولاراً للبرميل، مقتربا من ذروة الأسعار التي سجلها الخام بعد أيام من اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا.
وبحسب نشرة "أويل برايس" الأميركية، فإن صدمة إمدادات النفط قد تكون وشيكة رغم تأثيرات التباطؤ الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا، مشيرة إلى أنّ خطر حدوث هذه الصدمة يتزايد مع عودة الاقتصاد الصيني للانفتاح، بينما يُجبر النفط الروسي على الخروج من السوق بفعل العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو.