وسط أزمات مالية واقتصادية خانقة، حوّل الرئيس التونسي قيس سعيد وجهة الحلول المقترحة لملف رفع الدعم نحو خيارات جديدة بعد إعلانه عن إمكانية تمويل دعم المواد الأساسية لضعفاء الدخل عبر زيادة الضرائب على الأثرياء وأصحاب الدخول المرتفعة.
ويشكل ملف الدعم واحدا من النقاط الخلافية بين سلطة تونس وصندوق النقد الدولي وهو ما يعرقل توصّل البلد المأزوم اقتصادياً إلى اتفاق نهائي يفضي إلى حصوله على تمويلات بقيمة 1.9 مليار دينار.
وتأتي هذه الحلول التي وصفحها مراقبون بالمفخخة وبأنها تترجم شعبوية اقتصادية، كالشعبوية السياسية التي يتسم بها الرئيس التونسي وعهده، وسط انتقادات حادة في الأوساط الاقتصادية للسلطات في البلاد إذ ستزيد من المصاعب الاقتصادية عبر فرض ضرائب جديدة قد تؤدي إلى هروب الاستثمارات ومزيد من الضغوط على اقتصاد البلاد.
حكومة نجلاء بودن تتبنى برنامج إصلاح اقتصادي يفضي إلى الشروع في رفع الدعم على المواد الأساسية ومن بينها الغذاء والطاقة
وفي هذا السياق، كشف أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي، أن سعيد اقترح تمويل الدعم عبر فرض ضرائب على الفئات التي تنتفع بالدعم وهي لا تستحقه بهدف تمويل الصندوق العام للدعم وكذلك الشركات الأهلية لتشغيل العاطلين عن العمل.
وجاء المقترح الرئاسي خلال لقاء جمع سعيد الأربعاء الماضي، في قصر قرطاج بعدد من خبراء الاقتصاد والباحثين في جامعات تونسية من بينهم الشكندالي.
وتناول اللقاء كذلك الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتحقيق التوازنات المالية المنشودة على أساس العدل الاجتماعي بحسب ما نشرته الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية.
ضرائب على الأثرياء
ورغم مضي حكومة نجلاء بودن في برنامج إصلاح اقتصادي يفضي إلى الشروع في رفع الدعم على المواد الأساسية ومن بينها الغذاء والطاقة بداية من العام الجاري، إلا أن الرئيس التونسي يرفض أي إصلاح يضغط على الطبقات الضعيفة مقترحا تحميل جزء من الأعباء للأثرياء عبر فرض ضرائب على من لا يستحقون الدعم ويواصلون التمتع به.
ويرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمان اللاحقة، أن مقترح فرض ضرائب جديدة على من لا يستحقون الدعم من أجل تمويل صندوق التعويض، أمر غير صائب نظرا لغياب قاعدة بيانات واضحة ورسمية عن عدد من لا يستحقون الدعم في ظل توسع النشاط غير الرسمي والعمل الموازي.
ويقول اللاحقة في تصريح لـ"العربي الجديد" إن فرض ضرائب على من لا يستحقون الدعم يتطلّب حصرا دقيقا لهذه الفئة والحصول على البيانات الكافية حول مداخيلهم وقدرتهم على تحمّل أعباء ضريبية جديدة، مؤكدا أن الأمر غير ممكن في بلد يشغّل فيه القطاع غير الرسمي أكثر من 40 بالمائة من القوى العاملة.
وأكد اللاحقة أن الحكومة لا تستطيع ضبط قاعدة بيانات تفضي إلى عدل ضريبي في ظل هيمنة الاقتصاد غير الرسمي على 28 بالمائة من الناتج المحلي للبلاد، مشيرا إلى أن تونس تعاني من ضغط جبائي مرتفع تتحمله كل الطبقات وهو ما يتطلب تغيير منهجية تقاسم الأعباء الجبائية بين التونسيين على قاعدة أكثر عدلا دون فرض ضرائب جديدة.
وأشار في سياق متصل إلى أن رفع الدعم دون إلحاق الضرر بالطبقات الضعيفة والمتوسطة أمر ممكن شرط التوصل إلى إيجاد أرضية توافقية بين كافة مكونات المجتمع.
شروط صندوق النقد
يضع صندوق النقد الدولي إصلاح منظومة الدعم ضمن شروطه الأساسية لإقراض تونس، غير أن وصفة الإصلاح المفروضة من مؤسسات التمويل الدولية لا تجد قبولا لدى الرئيس التونسي ويعارضها الاتحاد العام التونسي للشغل.
يضع صندوق النقد إصلاح منظومة الدعم ضمن شروطه الأساسية لإقراض تونس، غير أن وصفة الإصلاح المفروضة من مؤسسات التمويل الدولية لا تجد قبولا لدى سعيد
ومنذ بداية العام الحالي كشفت حكومة نجلاء بودن عبر قانون الموازنة نيتها التعديل الدوري لأسعار المحروقات حيث سجّل قانون الموازنة الحالية خفض نفقات الدعم بنسبة 26.4 بالمائة مقارنة بسنة 2022 وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد، غير أنها لم تجرِ أي تعديل منذ بداية السنة.
كذلك خفضت الحكومة نفقات التدخل (التحويلات الاجتماعية لفائدة الطبقات الضعيفة) بنسبة 8 بالمائة. وخصصت سلطات تونس هذا العام نفقات لدعم المحروقات والكهرباء والنقل والغذاء بقيمة 8.8 مليارات دينار ما يعادل 2.9 مليار دولار مقابل إنفاق بقيمة 12 مليار دينار العام الماضي أي نحو 4 مليارات دولار.
لكن حكومة نجلاء بودن وعدت في المقابل بتعويض ما لا يقل عن 8 ملايين تونسي عن رفع الدعم عبر التحويلات المالية المباشرة، مؤكدةً استثناء الفئات الميسورة من منظومة الدعم. ووفق بيانات رسمية، اتسعت رقعة الفقر في تونس لتبلغ 16.6 بالمائة عام 2021 في مقابل 15.2 بالمائة عام 2015.
مأزق التهرب الضريبي
تختلف التقييمات في تونس بشأن جدوى فرض ضرائب جديدة على أصحاب الثروات والدخول العالية لدعم خزينة الدولة.
ويرى الخبير المالي معز حديدان، أن الضريبة على الثروة قد تزيد من التهرب الضريبي وسترفع الضغط الجبائي على الفئات الملتزمة حاليا بواجبتها، مؤكدا أن التجربة الفرنسية فشلت في هذا المجال، حيث أكد تقرير لمحكمة المحاسبات الفرنسية أن كلفة الضريبة على الثروة أكثر من المداخيل المستخلصة.
يمثل تحسين استخلاص الضريبة من الفئات المتهربة جبائيا من بين العناوين الرئيسية لخطة الإصلاح الاقتصادي التي يقترحها اتحاد الشغل
وقال حديدان في تصريح لـ"العربي الجديد" إن السلطة مطالبة بإيجاد حلول لخلق الثروة وليس فرض ضرائب على الثراء ونجاح المبادرات والأعمال التي تؤدي إلى تحسين دخول الأفراد وتصنيفهم ضمن الفئات غير المستحقة للدعم.
واعتبر المتحدث أنه من الظلم تحميل الفئات المساهمة في خلق الثروة وزر عدم قدرة الحكومة على إصلاح منظومة الدعم.
وقال: "أبغض الحلول أن يتم مجددا اللجوء إلى رفع الضرائب من أجل توفير موارد لمواصلة دعم فئات من التونسيين".
ويمثل تحسين استخلاص الضريبة من الفئات المتهربة جبائيا من بين العناوين الرئيسية لخطة الإصلاح الاقتصادي التي يقترحها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يطالب بتخفيف الأعباء على الفئات الملتزمة جبائيا ولا سيما طبقة الأجراء.
ومنذ بداية العام الحالي قالت حكومة تونس في قانون الموازنة أنها تنوي زيادة تعبئة موارد جبائية بقيمة 1.8 مليار دينار عبر الزيادة في أسعار التبغ بما يمكن من توفير 300 مليون دينار إضافية لخزينة الدولة إلى جانب فرض أحكام ضريبية توفر 781 مليون دينار، مع جمع إيرادات غير ضريبية بقيمة 300 مليون دينار وتعبئة موارد جبائية أخرى بـ500 مليون دينار لم يحدد مصدرها.
هروب الاستثمارات
يُقلق الذهاب نحو الحلول الضريبية الجديدة شريحة واسعة من المتعاملين الاقتصاديين في تونس وسط تحذيرات من أن يزيد الضغط الجبائي من هروب الاستثمارات وتراجع التحصيل الجبائي. ويرى خبراء اقتصاد أن السلطة قادرة على تعبئة مزيد من الموارد الذاتية لتمويل صندوق الدعم عبر توسعة القاعدة الجبائية دون اللجوء إلى فرض ضرائب جديدة.
ويقول الخبير المالي خالد النوري، إن الحلول لزيادة الموارد الذاتية للدولة ممكنة شرط وضع خطط ناجعة لاستيعاب النشاط الموازي دون اللجوء إلى إثقال كواهل المستثمرين بضرائب جديدة قد تؤدي إلى هروب المتعاملين الاقتصاديين ومغادرة الشركات الكبرى للبلاد. وحسب بيانات رسمية، ارتفع حجم الاستثمارات الأجنبية التي استقطبتها تونس خلال العام 2022 بنسبة 18.4 بالمائة بالمقارنة مع النتائج المسجلة في عام 2021.
يُقلق الذهاب نحو الحلول الضريبية الجديدة شريحة واسعة من المتعاملين الاقتصاديين فوسط تحذيرات من أن يزيد الضغط الجبائي من هروب الاستثمارات
ويؤكد النوري في تصريح لـ"العربي الجديد" أن تصعيد الضغط الجبائي على الأجراء والمهن المنظمة سيزيد من إرهاقها مقابل توسع الأنشطة الموازية التي لا تدفع أي نوع من الضرائب.
وأكد النوري أن الضغط الجبائي في تونس هو الأكبر أفريقيا، مشيرا إلى أن تحقيق العدالة الجبائية يحتاج إلى توسعة قاعدة الدافعين من أجل توفير موارد لتغطية الكلفة الاجتماعية لمساعدة الطبقات الضعيفة والمتوسطة والمحافظة على دور الرعاية الاجتماعية الذي تقوم به الدولة.
ارتفاع المداخيل الجبائية
وتطبّق تونس نحو 850 إجراءً ضريبياً ساهمت في تطوير المداخيل الجبائية لميزانية الدولة من 6 مليارات دينار عام 2010 إلى 30 مليار دينار سنة 2022 بينما يقارب الضغط الجبائي 25 بالمائة على المتعاملين وهو الأعلى أفريقيا
وفي شهر مايو/ أيار الماضي طالب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة رجال الأعمال) بالإسراع في تنفيذ إصلاحات اقتصادية تدعم النسيج الإنتاجي ومراجعة الاتفاقيات التجارية غير المتكافئة.
ودعت المنظمة الممثلة للقطاع الخاص، في بيان لها بمناسبة العيد العالمي للعمال، إلى إيجاد حلول لـ"تحسين التوازنات المالية الكبرى للدولة، بما يجعلها قادرة على تأمين دورها الاجتماعي والتعديلي وضمان توفير شبكات الحماية الضرورية للفئات الهشة".
وقال الاتحاد الصناعة والتجارة إن "الإصلاح الاقتصادي ليس نموذجا يستورد من الخارج دون تفكير، ولا دليلا يسار عليه دون إرادة، ولا قالبا إيديولوجيا جاهزا، بل هو إصلاح التقديرات الخاطئة والكف عن إهدار مقدّرات الدولة وحسن توظيف الموارد المتاحة".
تطبّق تونس نحو 850 إجراءً ضريبياً ساهمت في تطوير المداخيل الجبائية لميزانية الدولة من 6 مليارات دينار عام 2010 إلى 30 مليار دينار في 2022
كما أكد الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية على ضرورة "تجنب تكبد المزيد من الخسائر والتفريط في مقدرات التنمية والإنتاج والدخل الوطني، ومراجعة سياسة الاعتماد على التّداين المفرط من أجل الاستهلاك عوضا عن الاستثمار".
تفاقم الأعباء
كشفت دراسة تحليلية للمعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية (حكومي) ارتفاع العبء الضريبي على العمل بأجر في تونس لتبلغ 34.85 بالمائة في نهاية 2016 بعد أن كانت 30.17 بالمائة في عام 2006.
كذلك بينت الدراسة أن الحصة التي يتحملها الأجير ارتفعت في قيمة الضريبة الهامشية من 16.80بالمائة في 2006 إلى 25.19 بالمائة في 2017 أما الحصة التي يتكبدها صاحب العمل فقد ارتفعت من 16.85بالمائة في 2006 إلى 17.2 بالمائة.
وأوصت الدراسة بمراجعة المنح المقدمة للأسر والمكملة للرواتب التي تصبح بمرور الزمن غير مواكبة للتحولات ولا تلبي تطلعات الموظفين إلى جانب الدعوة إلى مراجعة عمليات الإنفاق الضريبي والاجتماعي الممنوحة بعنوان حوافز الاستثمار.