تنفس سوق الحبوب العالمي الصعداء عقب إعلان روسيا، أمس، عن تمديد اتفاق تصدير الحبوب وفق الشروط السابقة، حيث أعلن مسؤول روسي، الثلاثاء، تمديد اتفاق تاريخي يسمح لأوكرانيا بتصدير الحبوب عبر موانئها على البحر الأسود لمدة 60 يوما، لكن أوكرانيا قالت إنها ستلتزم بتمديده لمدة 120 يوما. وانتقدت فكرة تمديد الاتفاق لنصف المدة فقط، مؤكدة أن ذلك يتعارض مع الاتفاقية الأساسية.
وقبل أيام عدة من انتهاء المدة الثانية من مبادرة حبوب البحر الأسود البالغة 120 يوما، في 18 مارس/ آذار الجاري، تمخضت المشاورات الدولية في العاصمة جنيف عن تمديد "صفقة الحبوب" لمدة 60 يوما هذه المرة، وسط مطالبات روسية بإزالة العقبات أمام تصدير المنتجات الزراعية والأسمدة الروسية إلى السوق العالمية.
وقال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو، الثلاثاء، لوكالة "تاس" الرسمية الروسية: "بالفعل، تم تمديد الصفقة لمدة 60 يوما كما جرى الاتفاق عليه. تم التأكيد مرة أخرى على الطابع الشامل (للصفقة)".
وشدد غروشكو على أن موسكو ستطالب بالوفاء بالالتزامات أمام روسيا "من جهة تحقيق الشق الثاني القاضي برفع جميع العقوبات المباشرة وغير المباشرة لإيصال المنتجات الزراعية الروسية إلى الأسواق العالمية"، وأضاف: "لا يجري الحديث عن إمكانية النقل في حد ذاتها والسماح بدخول سفننا إلى الموانئ الأجنبية، وإنما أيضا عن التأمين وضرورة تسوية المسائل المتعلقة بشكل مباشر بإنتاج الحبوب في بلادنا وتوريد التكنولوجيا اللازمة وقطع الغيار ومختلف المعدات الزراعية إلخ".
من جانبه، وصف الناطق الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف تمديد "صفقة الحبوب" بأنه "بادرة حسن نية"، معربا عن أمل روسيا في الوفاء بالالتزامات أمامها، ومعتبرا أن "الصفقة لا يمكن أن تقف على قدم واحدة". وقال بيسكوف في تصريحات صحافية: "نثمن الجهود التي بذلت عبر خط الأمم المتحدة، ولكن على الرغم من ذلك، لم يتسن هدم جدار الغرب الجماعي. لم يتم الوفاء بالشروط التي تم الاتفاق عليها كجزء أساسي لا يتجزأ من الصفقة". وفي السابق، قالت روسيا إنه على الرغم من أن الغرب لم يستهدف صراحة صادراتها الزراعية، فإن العقوبات المفروضة على مدفوعاتها وخدماتها اللوجستية وقطاع التأمين أعاقت تصدير الحبوب والأسمدة.
ومنذ أن وقعت موسكو وكييف على مبادرة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود في تركيا في 22 يوليو/ تموز الماضي بوساطة تركية، وهي مبادرة تدعمها الأمم المتحدة، صدّرت أوكرانيا ملايين الأطنان من الحبوب والمنتجات الغذائية الأخرى عبر موانئها.
واقترحت روسيا، يوم الاثنين، السماح بتجديد الاتفاق، لكن لنصف مدة اتفاق التجديد السابق، بينما تعهدت الأمم المتحدة ببذل كل ما في وسعها لضمان بقاء الاتفاق على حاله. ويسمح الاتفاق، الذي وُقّع في يوليو/ تموز 2022 لمدة 120 يومًا، بين أوكرانيا وروسيا برعاية الأمم المتحدة وتركيا، بوضع حدّ لأزمة الغذاء العالمية الخطرة التي تسبب بها الغزو الروسي لأوكرانيا.
وفي منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، مُدد الاتفاق لمدة 120 يومًا حتى 18 مارس/ آذار الحالي. كما أسفر هذا الاتفاق الحيوي لإمدادات الغذاء العالمية عن تصدير أكثر من 24 مليون طن من الحبوب من الموانئ الأوكرانية، وفقاً للأمم المتحدة.
"هدية" لأردوغان
يعتبر مدير مكتب التحليل في مركز "سونار-2050" لدراسات قضايا تكامل الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي إيفان ليزان أن تقليص روسيا مدة "صفقة الحبوب" إلى 60 يوما يعني أنها قد تنسحب منها ما لم يتم الوفاء بمطالبها، دون أن يستبعد في الوقت نفسه أن تكون موسكو تقدم بذلك "هدية" للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حتى يحقق نصرا جيوسياسيا جديدا عشية الانتخابات التركية المقررة في 14 مايو/ أيار المقبل.
ويقول ليزان، في حديث لـ"العربي الجديد": "انتظرت روسيا لمدة 240 يوما حتى تفي الأمم المتحدة وتركيا بالتزاماتهما بصفتهما طرفين ضامنين لصفقة الحبوب، وربما ستنسحب منها بعد مرور 60 يوما ما لم يتم الوفاء بالالتزامات أمامها"، ويشير إلى أن "نحو 400 ألف طن من الأسمدة الروسية لا تزال عالقة في الموانئ الأوروبية، بما فيها نحو 300 ألف طن في الموانئ الإستونية.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات عن ملاك شركات الأسمدة الروسية، ولكن الموانئ الأوروبية لا تزال ترفض استقبال السفن الروسية في إطار تطبيق الحزمة الخامسة من العقوبات".
ويلفت ليزان إلى أنه رغم عدم فرض عقوبات غربية مباشرة على الحبوب الروسية، إلا أن صادراتها تصطدم هي الأخرى بالتمييز والعقبات، مثل رفض المصارف الغربية إقراض مشتريها، بالإضافة إلى استمرار قطع مصرف "روس سلخوز بنك" الزراعي الروسي عن منظومة "سويفت" العالمية للتحويلات المالية، وذلك على عكس مصرف "غازبروم بنك" الذي لم يتم فصله عن "سويفت" من أجل مواصلة تحويلات دفعات إمدادات الغاز.
ومع ذلك، لا يستبعد ليزان أن تكون لقرار تمديد "صفقة الحبوب" لمدة 60 يوما فقط دوافع سياسية مثل منح أردوغان فرصة لتحقيق نصر جيوسياسي بتمديدها مرة أخرى عشية الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 14 مايو/ أيار المقبل، على ضوء العلاقات المتشعبة ومتبادلة المنفعة بين روسيا وتركيا.
رسالة تحذيرية
يعزو الخبير الاقتصادي والصناعي الروسي المستقل ليونيد خازانوف إصرار موسكو على تقليص مدة الاتفاق لـ60 يوما إلى سعيها لإصدار رسالة تحذيرية للاتحاد الأوروبي لعدم المماطلة في الوفاء بالالتزامات أمام روسيا في إطار "صفقة الحبوب".
ويقول خازانوف، في حديث لـ"العربي الجديد": "يرجع تمديد الصفقة إلى انتهاج روسيا سياسات محبة للسلام ترمي إلى دعم البلدان الأفريقية التي تعتمد على استيراد الحبوب. لكن للأسف، هناك مخاوف كبيرة من ألا تحظى هذه الخطوة بالتقدير اللازم من الاتحاد الأوروبي الذي تضع سلطاته مختلف العراقيل على طريق تصدير الأسمدة المعدنية الروسية. تخلق مثل هذه المقاربة مشكلات لا يحتاج إليها أحد باستثناء المسؤولين الأوروبيين والحكومة الأوكرانية التي لم تدرك حتى الآن أن التصدير البحري للحبوب من أوكرانيا يعتمد بشكل مباشر على روسيا".
وحول رؤيته لدوافع روسيا لتحديد مدة الصفقة بـ60 يوما، يضيف خازانوف: "على الأرجح، حددت الحكومة الروسية هذه المدة لإصدار رسالة إلى الاتحاد الأوروبي بأنه حان وقت وضع حد للمماطلة في الوفاء بالقسم الخاص بالالتزامات أمام روسيا من صفقة الحبوب".
وكان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين قد أكد، يوم الاثنين، أن روسيا لا تعارض تمديد مبادرة حبوب البحر الأسود ولكن لمدة 60 يوما فقط. وأوضح فيرشينين أن المشاورات بشأن صفقة الحبوب في جنيف لم تكن سهلة، وأن موسكو ستستند إلى مدى الوفاء بالاتفاق في تصدير منتجاتها الزراعية عند اتخاذ قرار التمديد.
استياء أوكراني
في المقابل، لم يحظَ الإصرار الروسي على تمديد "صفقة الحبوب" لمدة 60 يوما فقط باستحسان كييف، إذ رأى وزير البنية التحتية الأوكراني ألكسندر كوبراكوف أن التمديد لهذه المدة بدلا من 120 يوما يتعارض مع الاتفاق.
وقال كوبراكوف يوم الاثنين: "تقتضي اتفاقية مبادرة حبوب البحر الأسود تمديدها لمدة لا تقل عن 120 يوما، وبالتالي، فإن موقف روسيا لتمديدها لمدة 60 يوما فقط يتعارض مع الوثيقة الموقعة من قبل تركيا والأمم المتحدة. ننتظر موقفا رسميا من الأمم المتحدة وتركيا"، واعتبر أن الاقتراح الروسي لتمديد اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية لمدة 60 يوماً، يتعارض مع الاتفاقية الأساسية الموقعة في يوليو والتي تنتهي مدتها في 18 مارس الجاري، لكنه لم يرفض عرض موسكو بشكل قاطع.
وأيد هذا المعنى مسؤول كبير بالحكومة الأوكرانية، حيث قال، الثلاثاء، إن كييف ستلتزم ببنود الاتفاق المبرم سلفا. وأضاف المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه لرويترز: "سنتبع الاتفاق بدقة".
ودعت أوكرانيا، الأسبوع الماضي، إلى بذل جهود دولية لإبقاء ممرّات الشحن في البحر الأسود مفتوحة لنقل الحبوب، كما دعا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، خلال انعقاد اجتماعات مجموعة العشرين في أوائل مارس، إلى تجديد روسيا للاتفاق.
ومن جهتها، تؤكد روسيا أنّ الجزء من هذا الاتفاق الذي يسمح لها بتصدير الأسمدة من دون عقوبات غربية لم يُحترم بالكامل. ويعود إبرام "صفقة الحبوب" إلى 22 يوليو/ تموز 2022، حين وُقّعت بين ممثلي تركيا والأمم المتحدة من جانب، وممثلي روسيا وأوكرانيا من جانب آخر.
وتم إبرام اتفاقين منفصلين مع موسكو وكييف، أحدهما لإخراج الحبوب الأوكرانية من ثلاثة موانئ هي أوديسا ويوجني وتشيرنومورسك، والثاني لتصدير الحبوب والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية.
وشكت موسكو مرارا من أن القسم الثاني من الصفقة لا يتم الوفاء به، بما في ذلك في ما يتعلق بتوريد الأسمدة الروسية المحتجزة في موانئ الاتحاد الأوروبي إلى البلدان الأفريقية مجانا.
وانتهت المدة الأولى من الصفقة في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ولكنه تم تمديدها لـ120 يوما أخرى حتى 18 مارس/ آذار الحالي. وخلال المدة الأولى من سريان الصفقة، وجهت موسكو انتقادات متكررة لتوجيه إمدادات الحبوب الأوكرانية إلى الدول الغنية والمتقدمة، وليس إلى الدول النامية والفقيرة في أفريقيا كما تم تسويق الهدف من الصفقة وقت إبرامها، وسط شيطنة روسيا وتصويرها كدولة قد تتسبب في مجاعة عالمية.