على بعد شارعٍ واحدٍ من مقر مجلس الأمة الجزائري (الغرفة الثانية للبرلمان)، في ساحة "بور سعيد" أو "السكوار" كما يحلو للجزائريين تسميتها، يوجد أكبر أسواق العملات في الجزائر، بدأ النشاط يعود إليها بعد أشهر من الجمود، حين لم يجد بائعو العملة زبائن، وظلوا يتقاسمون أزقتها بعضهم مع بعض وهم يترقبون بائعاً أو مشترياً لأي عملة كانت.
أعاد فتح استيراد السيارات المستعملة، وحتى الجديدة منها، الحركة إلى "بورصة السكوار"، ما أثلج صدور الباعة، الذين يعتبرون الممول الأول للجزائريين في ظل منع القانون الجزائري بيع العملات في البنوك، إلا للمسافرين إلى الخارج في ما يُعرف بـ"منحة السفر" التي لا تتعدى ما يعادل 15 ألف دينار من العملات الأجنبية، أي ما يوازي 100 دولار.
عادت الحركة إلى سوق العملات الأجنبية الموازية في الجزائر، عقب إعلان الحكومة إعطاء الضوء الأخضر أخيراً للجزائريين لاستيراد السيارات المستعملة، بدءاً من يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد صدور القانون المنظم عمليات الاستيراد ونسب الرسوم الجمركية في موازنة 2023، ما ينذر بارتفاع الطلب في الأسواق الموازية، وعودة اتساع هوة أسعار الصرف بين السوق الرسمية والموازية، التي ضيّقها تهاوي الدينار في الأشهر الأخيرة في التعاملات البنكية الرسمية.
قفزة في أسعار العملات
يقول الشاب عبد الله، وهو بائع للعملة في سوق "السوكوار"، إن "سعر العملات قفز عدة دنانير في الأيام الأخيرة، فاليورو قفز من 218 ديناراً لليورو الواحد، الى 223 ديناراً للبيع، في ظرف 10 أيام، في حين بلغ سعر صرف الدولار الأميركي 221 ديناراً للبيع بعدما كان عند 215 ديناراً الأسبوع الماضي، أما الجنيه الإسترليني بدوره فارتفع قليلا من 240 إلى 248 ديناراً للجنيه الواحد".
وأضاف المتحدث نفسه لـ"العربي الجديد" أن سوق العملة شهدت في الأيام الأخيرة حركية أعادت الأمل للبائعين الذين عانوا الأمرين منذ 2020، بسب إغلاق الحدود جراء كورونا وقرارات تجميد الاستيراد التي "قتلت" أسواق العملة حسب البائع. ويتوقع البائع عبد الله أن "تعود الحياة إلى سوق العملة الموازية مع فتح الاستيراد عموما والسيارات المستعملة والجديدة، لإنقاذ نشاطنا".
من جانبه، يؤكد الشاب سليم أن "بائعي العملة في الأسواق الموازية عاشوا أشهراً صعبة، بسبب الركود الذي ضرب نشاطهم بعد إغلاق الحدود الجوية والبحرية وتجميد الاستيراد، جراء سياسة التقشف التي تنتهجها الحكومة لكبح الواردات". وسمحت الحكومة للمواطنين باستيراد السيارات الخاصة، التي مرّ على تصنيعها أقل من ثلاث سنوات، بإمكانياتهم المالية الخاصة، بعد سنوات على قرار تجميد استيراد السيارات.
وحملت الموازنة العامة لسنة 2023 الضوء الأخضر لتحرير استيراد السيارات المستعملة رسمياً، في خطوة وصفها مراقبون بأنها تستهدف استرضاء الشارع وامتصاص الغضب الشعبي.
وسمحت الحكومة للجزائريين باستيراد سيارة مستعملة 3 سنوات على الأكثر، مرة واحدة كل 3 سنوات، على أن تكون السيارة موجهة للاستعمال الفردي غير التجاري، مع تحويل الأموال عبر الطرق البنكية الرسمية، على ألا تُباع السيارة المستوردة، مع خصم بـ80 بالمائة من الرسوم الجمركية في حال كانت السيارة ذات محرك كهربائي.
المموّل الوحيد
كما سمحت الحكومة الجزائرية، بدءا من يناير/كانون الثاني المنصرم، لوكلاء السيارات باستيراد السيارات الجديدة بعد تجميد دام منذ 2019، وذلك وفق دفتر شروط صارم ستطرحه الحكومة مطلع الشهر القادم، يلتزم من خلاله الوكلاء بتسويق السيارات بأسعار معقولة، ويضمنون خدمات ما بعد البيع، على أن ينتقلوا للإنتاج المحلي مع شركائهم المنتجين الأصليين في السنوات القادمة.
يرى الخبير المالي نبيل جمعة أن "تفاعل السوق الموازية مع رفع الحظر عن استيراد السيارات المستعملة، يعود لسبب وحيد وهو كون السوق الموازية للعملة هي الممول الوحيد للجزائريين وحتى الأجانب المقيمين في البلاد بالعملات، فقانون القرض والنقد الجزائري يمنع على البنوك بيع العملات إلا بعد تقديم تذكرة سفر مع حجز الفندق، وذلك مرة واحدة في السنة، على ألا يتعدى حجم العملة المُباعة 15 ألف دينار"، علما أن الدولار الواحد يساوي 222 ديناراً و218 ديناراً لليورو الواحد. ويقترح الخبير الجزائري في حديث مع "العربي الجديد" فتح مكاتب صرف في الجزائر، وذلك لامتصاص الكتلة المالية المتداولة في الأسواق الموازية، والسماح للجزائريين بشراء العملة بطرق أكثر ليونة وبأسعار معقولة.
تحرك الأموال المكدسة
إلا أن أطرافاً فاعلة وممولة لأكبر سوق صرف موازية للعملات في الجزائر، وحتى الباعة، تؤكد لـ"العربي الجديد" أن الطلب على العملات الأجنبية، وخصوصا العملة الأوروبية الموحدة والدولار، ارتفع في الأيام الأخيرة بشكل مفاجئ، وسط تضاعف عمليات الشراء بشكل لم يفهمه البائعون. ويعزو ناشطون في السوق هذه الموجة إلى الجملة التي أطلقها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، والتي وجه فيها "النداء الأخير" لأصحاب الأموال المكدسة، من أجل استجلابها إلى الدورة الاقتصادية والمسالك البنكية الرسمية.
وكان الرئيس الجزائري أطلق تحذيرات بخصوص الأموال المخزنة خارج البنوك من قبل أصحابها، وصفها بآخر إنذار لهم، ودعاهم إلى الإسراع في إيداعها، قائلاً: "أوجه آخر نداء للذين قاموا بتكديس الأموال في البيوت لإيداعها في البنوك". واعتبِر هذا التصريح تهديداً واضحاً لأصحاب الأموال المكدسة، لكنّه لمح في الوقت نفسه إلى إمكانية أن تكون السلطات بصدد التحضير في أفق قريب لتدابير قانونية أو إجراءات، تحدد من خلالها قيمة قصوى للأموال النقدية التي يسمح بحيازتها، وسط عودة الحديث عن احتمال تغيير العملة الجزائرية.
إلى ذلك، يؤكد الخبير الاقتصادي جمال نور الدين أن "ارتفاع أسعار العملات في الأسواق السوداء يعود فعلا الى ارتفاع الطلب بسبب عودة استيراد السيارات، لكن أيضا لتحرك الأموال المكدسة سواء لتمويل هذه العمليات أو احترازيا، واستباقيا في ظل كشف السلطات لمساعٍ لامتصاص الكتل النقدية المكدسة، وهذا ما كشفت عنه عمليات الحجز التي قامت مختلف مصالح الأمن الجزائرية مؤخرا بتنفيذها، وسمحت بالكشف عن أموال ضخمة مكدسة في المنازل".
ويضيف الخبير الجزائري لـ"العربي الجديد" أن "انتعاش أسواق العملة سيتواصل في ظل بقاء مخاوف أصحاب الأموال، وتبقى العملات الأجنبية، وحتى الذهب، الملاذ، وأيضاً العقارات، ما يتذر بتضخم محتمل في هذه القطاعات".