تظل تجربة ماليزيا في التنمية، وتحسين المستوى المعيشي للمواطن، ورفع مستوى الصحة والتعليم، وإحداث طفرة في البنية التحتية والقطاعات الحيوية مثل الصادرات والصناعة والسياحة، والخروج من حالة الفقر والبطالة والجهل والاستدانة في غضون سنوات قليلة، ملهمة للدول النامية والفقيرة رغم العثرات الكثيرة التي مرت بها في السنوات الأخيرة وتحاول التغلب عليها حاليا.
كما تظل تجربة ماليزيا حاضرة وبقوة عالميا في إحداث طفرة اقتصادية سريعة، وقفزة في الإيرادات الدولارية خاصة من الأنشطة الصناعية والتقنية، والتمتع بإحدى أفضل بيئات الاستثمار في جنوب آسيا حسب دراسات البنك الدولي، والتحول إلى واحدة من أنجح الاقتصاديات في جنوب آسيا والعالم الإسلامي.
في غضون سنوات، تحولت ماليزيا من دولة فقيرة هشة تشهد صراعات وخلافات بين مجموعات عرقية متناحرة إلى جوهرة أسيا السياحية، وأحد أبرز المواقع الصناعية في منطقة جنوب شرق آسيا، ومن كيان تمزقه العشوائية وينهش العوز والعصبية في كيانه الاجتماعي إلى دولة حديثة تتدفق عليها الاستثمارات الأجنبية والسياح من كلّ جانب.
في غضون سنوات، تحولت ماليزيا من دولة فقيرة هشة تشهد صراعات وخلافات بين مجموعات عرقية متناحرة إلى جوهرة أسيا السياحية
ومن دولة تعتمد على الغير ودول العالم في تموين أسواقها المحلية إلى دولة تجاوزت صادراتها الخارجية 355 مليار دولار في العام الماضي، وحققت فائضاً تجارياً للعام الـ25 على التوالي في 2022.
كما تعد واحدة من أبرز الدول استقطابا للاستثمارات الخارجية، فقد جذبت استثمارات تقدر بنحو 15 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري فقط، وأحدث تلك الاستثمارات ما أعلنه عملاق صناعة السيارات الصينية، جيلي، أمس من استثمار 10 مليارات دولار.
وحاليا تسعى ماليزيا إلى الاستفادة من نقاط قوتها في مجال إنتاج الرقائق والأجهزة الكهربائية والإلكترونية وصناعة الطاقة وتقدم القطاع المالي والصيرفة الإسلامية لجذب مزيد من الاستثمارات الخارجية.
وقبل أكثر من 4 عقود تمكن مهاتير محمد وعدد من السياسيين، أبرزهم رئيس الوزراء الحالي أنور إبراهيم، من تحويل ماليزيا من دولة زراعية كانت تكتفي بتصدير المواد الخام إلى دولة حديثة تصنفها دول العالم ضمن الاقتصادات الأسرع نموا، وواحدة من النمور الآسيوية والتي تضم عدة دول منها سنغافورة وتايوان وهونغ كونغ. كما قادها إلى تحقيق الاقتصاد معدلات نمو فاقت 8% سنويا في الفترة الممتدة من 1988 و1996.
وتحولت ماليزيا من دولة تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، خاصة القصدير والمطاط والنفط الخام، إلى دولة متقدمة يسهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي، ولعبت تلك الطفرة دورا كبيرا في تحسين دخل الفرد ومعيشته وتراجع معدل الفقر والحد من البطالة، خصوصا بين الشباب لتصل لمعدلات متدنية.
وخرجت الدولة من عباءة صندوق النقد الدولي ورفضت شروطه حتى في ذروة الأزمة المالية العنيفة التي مرت بها النمور الآسيوية في عام 1997، ورفض مهاتير محمد فكرة العولمة التي ترسمها الولايات المتحدة وتتيح للشركات الأميركية ومتعددة الجنسيات نهب ثروات العالم تحت بند الانفتاح الاقتصادي وحرية التجارة.
خرجت الدولة من عباءة صندوق النقد الدولي ورفضت شروطه حتى في ذروة الأزمة المالية العنيفة التي مرت بها النمور الآسيوية في عام 1997
لكن في سنوات لاحقة وعقب خروج مهاتير محمد من المشهد السياسي واجهت تجربة ماليزيا عثرات عدة في مقدمتها الفساد الذي استشرى في فترة حكومات ما بعد مهاتير، وفضيحة الصندوق السيادي الماليزي، ونهب 35 مليار دولار من أموال الدولة، وهو ما تسبّب في انهيار التجربة الماليزية كما قال رئيس الوزراء أنور إبراهيم مؤخراً.
كما تواجه البلاد اليوم تحديات اقتصادية صعبة نجحت تجربة مهاتير محمد الأولى في التعامل معها بحرفية؛ فلا يزال هناك تفاوت طبقي بين الأغنياء والفقراء، وعادت نسب الفقر المدقع للمشهد الاجتماعي بخاصة بين المسلمين الأغلبية الملايو والصينيين، رغم أن ماليزيا تتمتع بوفرة من النفط والغاز والزراعة والصناعة.
وللتعامل مع تلك التحديات بدأت ماليزيا في الفترة الماضية مرحلة جادة من مكافحة الفساد، فقد سجنت رئيس الوزراء الأسبق نجيب عبد الرزاق 12 عاماً في أغسطس/آب 2022 بتهم الفساد والكسب غير المشروع، وتحاكم الآن رئيس الوزراء السابق محيي الدين ياسين الذي قاد الحكومة من مارس/ آذار 2020 وحتى أغسطس 2021.
ورغم تلك العثرات لا تزال التجربة بمثابة نموذج نهضوي وملهمة للحكومات الراغبة في تحويل دولها النامية والمتخلفة إلى دول قوية اقتصاديا، والدولة نجحت لأنه كان لدى حكوماتها دائما تصور أو رؤية للمستقبل، وإرادة واضحة وإصرار على النجاح، والتمسك باستقلالية القرار الاقتصادي، واعطاء أولوية بالإنسان من حيث رفع مستوى المواطن المعيشي والصحي والتعليمي، وإعطاء أولوية لقطاع الإنتاج والصناعة، فهل تتوافر تلك الإرادة لدى الحكومات العربية؟