تواجه سلطات تونس تحدي تحرير مواقع إنتاج الفوسفات من اعتصامات طالبي العمل، بعد أن تسببت الاحتجاجات الاجتماعية طيلة ما يزيد عن عقد من الزمن من إنهاك القطاع وخسارة البلاد لموقعها كمنتج عالمي لمادة الفوسفات الحيوية.
وبعد سنوات طويلة من التعطيل المتواصل لهذه الثروة تحاول السلطات استعادة سيطرتها على القطاع الذي أحيل إلى أنظار مجلس الأمن القومي. وفي إبريل/ نيسان الماضي تم تحريك اجتماع لمجلس الأمن القومي خُصّص للنظر في ملف إنتاج الفوسفات.
وتم استعراض جملة من الحلول التي من شأنها أن تعيد إنتاج الفوسفات إلى المستويات التي كان عليها، بل وأكثر من ذلك.
وقال الرئيس التونسي قيس سعيد إبان زيارة إلى محافظة قفصة لموقع إنتاج الفوسفات الأسبوع الماضي إن "تونس اليوم في حاجة إلى الفوسفات وكل ثرواتها الوطنية لمواجهة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة، وإنه من الضروري أن يسترجع القطاع نسق إنتاجه العادي"، موجهاً خطابه إلى مجموعة من طالبي الشغل الذين يعتصمون بموقع الإنتاج منذ عام 2020، وذلك وفق ما نقلته وكالة الأنباء الرسمية "وات".
وتمكنت تونس خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي من تصدير ما يزيد عن 625 ألف طن من مواد الفوسفات الخام، وسط قلق من تواصل تعثّر القطاع الذي تراهن عليه الدولة لتحسين إيراداتها من العملة الصعبة بعد ما يزيد عن عشر سنوات من الانحدار المتواصل لمردود هذه الصناعة المهمة للبلاد.
وكشفت أحدث البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء الحكومي أن تونس جنت منذ بداية العام الحالي ما يزيد عن 1.2 مليار دينار من إيرادات تصدير الفوسفات، مقابل 957 مليون دينار من مداخيل التصدير خلال ذات الفترة من العام الماضي.
إنهاك قطاع الفوسفات
كانت وزارة الطاقة والمناجم التونسية قد أعلنت في وقت سابق أنها تخطط لاسترجاع نسق إنتاج الفوسفات واستعادة مكانة تونس العالمية في هذا المجال.
وأوضحت أن إنتاج الفوسفات في تونس بلغ 3.7 ملايين طن خلال العام الماضي، وأنها تعمل من أجل زيادة هذا الإنتاج إلى 5.6 ملايين طن خلال العام الجاري، و8 ملايين طن في 2024 و12 مليون طن في 2025.
وتتسبّب اعتصامات طالبي الشغل بموقع الإنتاج بمدينة "الرديف" في تعطيل توصيل مخزون كبير من الفوسفات التجاري، لا يقلّ حجمه عن 1.5 مليون طن نحو عدد من مُصنّعي الأسمدة الكيميائية، بحسب بيانات رسمية جرى الكشف عنها إبان الزيارة الرئاسية إلى المنطقة.
الخبير في التنمية حسين الرحيلي يؤكد أن قطاع الفوسفات لن يسترجع قدراته الإنتاجية ما لم يتم تحرير شركة "فوسفات قفصة" من أعبائها الاجتماعية والتنموية التي تقوم بها في كامل منطقة الحوض المنجمي.
وقال الرحيلي في تصريح لـ"العربي الجديد": "على امتداد عقود طويلة حلّت شركة فوسفات قفصة محلّ الدولة في المنطقة التي يوجد بها المصنع، حيث أولت لها كل المهام التنموية والرياضية والثقافية، وشكلت الملاذ الوحيد لطالبي العمل، ما تسبب في إنهاكها".
ويرى الخبير في التنمية أن الشركة تحتاج إلى استعادة دورها الرئيسي في النهوض بصناعة الفوسفات وتسويقه لتستعيد الدولة دورها التنموي في المنطقة، مشيراً إلى أن هذه المنطقة تزخر بالموارد الإنشائية التي يمكن تحويلها إلى مشاريع مهمة في مدن الحوض المنجمي.
وطالب الرحيلي بالكف عن إنهاك المؤسسة بالتوظيف العشوائي الذي تسبب في تخصيص كتلة أجور الشركة بشكل قياسي مقابل تراجع إمكاناتها الإنتاجية وتآكل رأس مالها الذاتي.
وتقع منطقة الحوض المنجمي في محافظة قفصة جنوب غربي البلاد التي تصل معدلات البطالة بها إلى نحو 29 بالمائة، حسب البيانات الرسمية لمؤسسة الإحصاء.
احتجاجات البطالة
وتؤدي نسبة البطالة العالية في المنطقة إلى الاحتجاجات المستمرة للمطالبة بالعمل في الشركة، وهو ما دفع السلطات على امتداد السنوات العشر الماضية إلى شراء السلم الاجتماعية بوظائف وهمية تتحمل الشركة أعباءها بدفع رواتب لعمّال لا يقومون بأية وظيفة.
وتحتاج الشركة لاستعادة توازناتها المالية إلى نقل 5 ملايين طن سنوياً من المواد الخام إلى مصانع التحويل، غير أن عودتها إلى سباق الدول المصدرة يحتاج إلى إنتاج لا يقل عن 8 ملايين طن.
وتراوح معدل احتياطي المواد الأولية الذي يتم نقله للمجمع الكيميائي في السنوات التسع الأخيرة بين 2.5 و3.5 ملايين طن، وهو ما يؤثر على الصناعات الكيميائية التحويلية ومختلف أنشطة المجمع، فضلاً عن تأثير ذلك على تزويد السوق المحلية من الأسمدة الزراعية.
وتساعد صادرات الفوسفات على تحسين عجز الميزان التجاري المتفاقم نظراً لأهمية الإيرادات التي تجنيها البلاد من هذه المادة الحيوية.
كذلك شكّلت الفوسفات مصدراً أساسياً للعملة الصعبة إلى جانب تحويلات المغتربين ومداخيل السياحة قبل أن يتراجع دوره بشكل لافت خلال السنوات العشر الماضية.
وتعاني تونس من عجز تجاري متفاقم قارب 29%، وبلغت قيمة العجز في الميزان التجاري لتونس (الفرق بين قيمة الصادرات والواردات) نسبة 28.5% على أساس شهري خلال إبريل/ نيسان الماضي.
جاء ذلك، في بيان صادر عن المعهد الوطني للإحصاء الحكومي في تونس في مايو/ أيار الماضي، أورد فيه أن قيمة عجز الميزان التجاري بلغت 2.272 مليار دينار (744.5 مليون دولار).
وكان عجز الميزان التجاري قد سجّل 1.768 مليار دينار (579.6 مليون دولار) خلال مارس/ آذار السابق له، وأضاف المعهد أن نسبة تغطية الصادرات من إجمالي الواردات تراجعت في إبريل بنسبة 5.5%، لتبلغ 68.4%، أي أن الصادرات ما زالت أقل من الواردات، وهو ما يفسر وجود عجز تجاري.
حلول الإنقاذ الوطني
يضع أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا شكندالي استرجاع قطاع الفوسفات في صدارة حلول الإنقاذ الاقتصادي والمالي للبلاد، معتبراً أن العودة إلى مستويات الإنتاج المسجلة ما قبل عام 2010 تغني تونس عن قرض صندوق النقد الدولي.
وأكد الشكندالي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن عائدات الفوسفات يمكن أن توفر للبلاد إيرادات سنوية بقيمة مليار دينار، وهو مبلغ أكبر من الأقساط المتوقع صرفها من صندوق النقد الدولي، بحسب قوله.
وطالب المتحدث بضرورة استرجاع نسق الإنتاج وإخضاع عملية نقله وتأمينه تحت إمرة الجيش، مشدداً على أهمية التشجيع على الاستثمار في منطقة الحوض المنجمي وتحويل الفوسفات إلى أسمدة وخلق موارد رزق.
وتأمل تونس أن يُعزز ارتفاع إنتاجها من الفوسفات من إيراداتها المالية بالنقد الأجنبي، لا سيما في هذه المرحلة التي تمر فيها البلاد بأزمة مالية جعلتها تتفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار.
وكانت تونس سنة 2010 قد أنتجت 8.1 ملايين طن، قبل أن ينهار الإنتاج عام 2011 ليصل إلى 2.4 مليون طن ثم 2.7 مليون طن عام 2012 ثم 3.2 ملايين طن عام 2013.
سنة 2014 سجلت تونس أعلى مستوى إنتاج عقب الثورة بـ3.7 ملايين طن، بعد تشكّل حكومة مهدي جمعة وعودة الاستقرار النسبي للبلاد، لكن الإنتاج لم يتحسن في العامين التاليين وظل في حدود 3.6 ملايين طن إلى حدود سنة 2016.
وصعد إلى 4.4 ملايين طن عام 2017 ليعود إلى النزول مجدداً سنة 2018 بإنتاج 3.3 ملايين طن، ثم زاد إلى 4.1 ملايين طن عام 2019 بينما استقر مستوى الإنتاج خلال العامين الماضيين في حدود 3 ملايين طن.
ويعتبر قطاع الفوسفات في تونس واحداً من القطاعات المهمة الداعمة لاقتصاد البلاد، إذ تمثّل عائداته 10% من إجمالي إيرادات صادرات البلاد، إلى جانب توفيره نحو 30 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة.