"العالم كله يعاني من أزمات اقتصادية، فما العيب أن نعاني مثله، نحن لا نعيش في قرية معزولة، أو بمعزل عما يحدث حولنا، أسعار السلع تقفز في معظم دول العالم، هناك قفزات في أسعار الغاز والبنزين والسولار وفواتير الكهرباء، فلمَ توجيه سهام النقد لحكوماتنا فقط دون الأخذ في الاعتبار ما يحدث حولنا من أزمات، تضخم وغلاء فاحش وأزمة طاقة وتغير مناخي وجفاف وزيادة سعر الفائدة على العملات ومخاطر جيوسياسية وغيرها؟".
هذه الكلمات تتردد كثيراً هذه الأيام على لسان إعلاميين محسوبين على الأنظمة الحاكمة في منطقتنا العربية وموالين لها، وكذا في وسائل إعلام وصحف ومواقع تواصل اجتماعي حكومية وممولة من أموال دافعي الضرائب، وذلك في محاولة لتبرير ما يحدث في الأسواق المحلية من غلاء فاحش وتهاوٍ في قيمة العملات المحلية، وتآكل في القوة الشرائية للمواطن، وتدنٍّ في الأجور، وكساد وفوضى في الأسواق، وحالة ركود لا تخطئها العين، وإفلاس شركات، وإغلاق مصانع، وتسريح عمالة وفساد واحتكارات.
لا يكتفي الإعلام بتبرير عجز الحكومة عن مواجهة الغلاء وتفشي البطالة والفقر، بل يطالب المواطن بالتوقّف عن تحميل الحكومة المسؤولية
لا يكتفي هؤلاء بتبرير حالة العجز الحكومي عن مواجهة أزمة الغلاء واخفاق الاقتصاد وتفشي البطالة والفقر، بل يطالبون المواطن بالتوقّف عن انتقاد السلطات المسؤولة عن إدارة الشأن العام بما فيها الشأن الاقتصادي والأسواق، أو تحميلها مسؤولية الغلاء ورفع الأسعار بشكل متواصل.
بل يصل الأمر ببعضهم إلى حد الاستفزاز، حينما يطالب الفقراء والمعدمين والعمالة غير المنتظمة بالتبرع لسداد ديون الدولة الخارجية، وكأنّ هؤلاء لديهم الرفاهية المالية والسيولة النقدية والقدرة، ليس فقط على سداد التزاماته اليومية واحتياجاته المعيشية، بل سداد ديون خارجية ضخمة لا يعرف عنها شيئاً ومتى حصلت عليها الحكومة وفيما أنفقتها.
وللأسف، فإنّ إعلام الصوت الواحد يبرر كل شيء للحكومات ويدافع بشكل صارخ وفاضح عن سياساتها الاقتصادية وقراراتها التقشفية بحق المواطن من زيادة أسعار، وفرض ضرائب، وغيرها، حتى لو وصل الأمر إلى حد بيع الحكومة السلعة أو الخدمة بأعلى كثيراً من تكلفتها الفعلية، وذلك كما حدث إبان جائحة كورونا.
ففي الوقت الذي تهاوت فيه أسعار النفط والبنزين والسولار في الأسواق الدولية، كانت بعض حكومات دول المنطقة تواصل زيادة أسعار البنزين والسولار والغاز وحرمان المستهلك من مزايا هذا التهاوي .
يحدث ذلك الدفاع حتى لو تراجعت الحكومات نفسها عن بعض مواقفها وسياساتها الاقتصادية واعترفت بالخطأ في الاعتماد مثلاً على الأموال الساخنة في دعم سوق الصرف، وقيمة العملة، وردم الفجوة التمويلية للدولة، وأنّها تجاهلت الاستثمار المباشر وركزت على قطاع واحد في التنمية، وتجاهلت بعض القطاعات المرتبطة مباشرة بالمواطن.
إعلام الصوت الواحد يعاير المواطن بفقره وزيادة نسله ليل نهار تجاهل عدة حقائق ويحوّله من مجني عليه إلى جانٍ
هذا الإعلام الذي يعاير المواطن بفقره وزيادة نسله ليل نهار تجاهل عدة حقائق عند ربطه ما يحدث في دولنا بما يحدث في دول العالم من غلاء وتضخم، وقبلها دفاعه بقوة عن الحكومات بشكل يعجز عنه المنطق، خصوصاً عندما يحوّل المواطن من مجني عليه إلى جانٍ، والدولة من مسؤول عن تدبير الاحتياجات الرئيسية لمواطنيها إلى سمسار وتاجر يجري وراء الأرباح حتى لو أدت سياساتها إلى قذف الملايين في آتون الفقر المدقع والتسول والجوع
أول تلك الحقائق هي أنه صحيح أن هناك موجة تضخم في العالم، ويعاني منها المواطن إلّا أنّ الحكومات المختلفة تواجه هذه الموجة بقوة عبر تقديم مساعدات نقدية ضخمة للأسر تمكّنها من مواجهة الأسعار المرتفعة، وخفض الضرائب والجمارك، وزيادة الأجور، وخلق فرص عمل، وتحفيز الاقتصاد، وخفض تكلفة الإقراض، كما أنّ هذه الحكومات توفر من الأصل الاحتياجات الأساسية للمواطن من تعليم وصحة مجانيين، وأحياناً مسكن لائق ومعاش تقاعدي ممتاز ومواصلات مجانية خاصة لكبار السن.
ثاني هذه الحقائق أنّ موجات التضخم التي يعاني منها المواطن الأميركي والأوروبي مثلاً معظمها ترجع لأسباب خارجية بحتة، منها على سبيل المثال قفزات أسعار الطاقة من نفط وغاز في الأسواق العالمية، وتعطل سلاسل الإمدادات الدولية، وزيادة كلفة الإنتاج والمواد الخام والسلع الوسيطة، وأنّ هذه الموجات ليست لأسباب محلية مثل التوسع المفرط في الاقتراض الخارجي، وإساءة استخدام المال العام، وهو ما يضغط على عملات تلك الدول وخفض قيمتها. والنتيجة زيادة الأسعار في السوق المحلية.
حكومات العالم تواجه موجة التضخم بقوة عبر تقديم مساعدات نقدية ضخمة للأسر، وخفض الضرائب والجمارك، وزيادة الأجور
ثالث الحقائق أنّه في الوقت الذي ترصد الحكومات في دول العالم مليارات الدولارات حزماً تحفيزية للأسر والطلاب وكبار السن ودعماً للمستشفيات نجد أنّ حكومات الدول النامية هي من تُشعل موجة التضخم، عبر زيادة أسعار السلع والخدمات والضرائب والدولار الجمركي وأسعار الطاقة والمواصلات العامة.
رابع تلك الحقائق أنّ من يبررون كلّ شيء للحكومات القائمة لا يتحدثون أصلاً عن الأسباب المحلية وراء الغلاء الفاحش الذي تعيش فيه أسواقنا ويطحن المواطن من نقص في السلع، وتجاهل محاصيل حيوية مثل القمح، والتضييق على زراعات أخرى مثل الأرز والذرة.
ولا ينطقون بكلمة عن تجاهل حكومات دول المنطقة قضية خطيرة بحجم وأهمية الأمن الغذائي وتأمين الدواء والسلاح، ولا يتحدثون عن مخاطر الإفراط في الاقتراض الخارجي على الأسعار والأسواق المحلية، وهو ما يدفع الحكومات نحو زيادة أسعار السلع والخدمات والضرائب والرسوم بشكل متواصل لتدبير أقساط الديون وعوائدها الخارجية.
ولا تنتقد الأذرع الإعلامية قراراً باستسهال الحكومات في الاعتماد على الأموال الساخنة في الحصول على النقد الأجنبي، وهو ما يكلف الموازنة العامة أعباء بمليارات الدولارات هي كلفة هذه الأموال، وهو ما يؤثر سلباً على مخصصات الدعم والاستثمارات الحكومية.
لا ينطق الإعلام بكلمة عن تجاهل الحكومات قضية خطيرة بأهمية الأمن الغذائي وتأمين الدواء، ولا يتحدث عن مخاطر الإفراط في الاقتراض
كما أنّ هؤلاء لا يتحدثون كلمة واحدة عن إساءة الحكومات استخدام المال العام وهدره، وإهمال قطاعات حيوية للمواطن مثل التعليم والصحة وصناعة الأدوية والأمن المائي والغذائي، وأنّه في الوقت الذي يجري فيه بناء ألف جسر وكوبري وفي مناطق غير مأهولة لم تُبنَ مدرسة أو مستشفى واحد.
أخيرا، إعلام الصوت الواحد لا يبرز حقيقة مهمة وهي أن المواطن في الدول الأخرى يحاسب حكومته المنتخبة على وعودها الانتخابية وبرامجها، ويستطيع إقالتها في حال التقصير في أداء مهامها وفي مقدمتها توفير الخدمات الأساسية وبسعر مناسب لأجره وقدرته الشرائية.