في السادس عشر من يناير/ كانون الثاني الماضي، خرج رئيس أوزبكستان شوكت ميرزوييف ليعلن عن إقالة نائب وزير الطاقة ورؤساء عدد من شركات الغاز والطاقة ورئيس بلدية العاصمة طشقند بسبب الإخفاقات في الاستعداد لفصل الشتاء.
وقال ميرزوييف في اجتماع طارئ حينها "إنني قلق بشأن كل أسرة، وكل شخص يعاني من البرد.. كل زعيم يجب أن يشعر بهذا. البرد هذا العام أظهر حالة النظام بأكمله".
تبدو خطوة ميرزوييف متأخرة كثيراً، إذ سبق أن حذر تقرير سري جرى تقديمه إليه قبل نحو ثلاث سنوات من مشاكل تتعلق باستنزاف ثروات البلاد من خلال مشروعات جرى تقديم تسهيلات كبيرة بشأنها لمتنفذين في الدولة و"وكلاء" لرجال أعمال روس مقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفق تحقيق استقصائي أجرته خدمة "Radio Ozodlik"، التابعة لإذاعة أوروبا الحرة.
صفقات سرية بمليارات الدولارات
وأشار التحقيق، وفق ما نقلت نشرة "أويل برايس" الأميركية المتخصصة في الطاقة، إلى صفقات سرية بمليارات الدولارات جرى إبرامها في إطار مبادرات الطاقة الرئيسية التي تبناها ميرزوييف قبل سنوات، لافتا إلى تقرير سري جرى تقديمه إلى ميرزوييف في يناير/ كانون الثاني 2020 حذر من أن الصفقات التي جرى إبرامها "تهدد أمن الطاقة في البلاد" على عكس ما يصبو إليه.
وقال أربعة أشخاص مطلعين على التقرير الذي تضمن سجلات لتعاملات الشركات التي جرى إسناد مشروعات لاستكشاف واستخراج النفط والغاز إليها ومقابلات مع مسؤولين حكوميين ومديرين تنفيذيين في شركات طاقة حكومية، إن التقرير الذي جرى تقديمه إلى ميرزوييف أشار إلى كيفية سيطرة المتنفذين الأوزبك والروس على مئات حقول الغاز والنفط في الدولة، ومنحهم أعمال حفر واستخراج وحقوق تصدير في كثير من الأحيان مع عدم وجود دليل علني على تقديم عطاءات تنافسية.
ولفت التقرير إلى أنه جرى أيضا تسليم السيطرة على منشأة التخزين الرئيسية لشبكة الغاز الأوزبكية إلى شركة روسية مملوكة لسيدة تدعى عايدة شاشكاليا، تعمل مساعدة قانونية في سانت بطرسبرغ، ولديها علاقات تجارية مع الملياردير الروسي غينادي تيموشينكو المقرب من بوتين والذي فرضت عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات منذ عام 2014، لافتا إلى أن مالكة الشركة "تبدو أنها وكيلة لتيموشينكو".
ونشر التحقيق مئات الصفحات من السجلات، بما في ذلك "التقارير السرية والقرارات الرئاسية التي لم تكن متاحة للجمهور من قبل، المتعلقة ببرنامج الطاقة الخاص بالرئيس الأوزبكي ميرزوييف والشركات والأفراد ذوي العلاقات الجيدة الذين استفادوا منه".
تكشف هذه السجلات أن منح حقوق التطوير والاستخراج وعقود البناء والحفر، جاء بالأمر المباشر. وخرج ميرزوييف ليعلن بعد الاجتماع الطارئ الذي عقده في 16 يناير/ كانون الثاني في طشقند، أنه أصدر تعليماته لجهاز أمن الدولة الأوزبكي للتحقيق مع المسؤولين الذين أقالهم وسط أزمة الغاز الأخيرة و"تحميلهم المسؤولية" عن أي انتهاكات يجري التوصل إليها.
جاءت إقالات ميرزوييف لمسؤولين حكوميين لتشير إلى صحة ما تضمنه التقرير السري المقدم إلى إدارته في يناير 2020، بينما شمل التقرير قائمة أطول بكثير من المتورطين المزعومين، وفق التحقيق الاستقصائي.
وطالب التقرير ميرزوييف باستبدال "القيادة بكاملها" في وزارة الطاقة وشركة الطاقة الحكومية "أوزبك نفتوغاز" Uzbekneftegaz ومحاكمتهم بتهمة التسبب في أضرار اقتصادية للدولة "بما في ذلك التواطؤ مع مسؤولين في الإدارة الرئاسية".
موجة برد تضرب البلاد
ووفق القائمين على التحقيق الاستقصائي، جرت محاولات للحصول على تعليقات بشأن ما جاء في التقرير السري من إدارة ميرزوييف، ووزارة الطاقة الأوزبكية، وشركة الطاقة المملوكة للدولة، لكنها لم تتلق أي ردود قبل النشر.
وكشفت موجة البرد الأخيرة التي ضربت البلاد عن أزمة كبيرة في قطاع الطاقة في أوزبكستان. وبسبب موجة البرد، وصل استهلاك الكهرباء إلى أعلى مستوى عند 250 مليون كيلوواط / ساعة. وشهدت العاصمة طشقند أكثر من 1000 حادث بسبب زيادة الضغط على شبكة الطاقة خلال نحو أسبوع واحد في منتصف الشهر الماضي. ووفقا للأرصاد الجوية حينها، انخفضت درجة الحرارة إلى 17 درجة تحت الصفر ليلاً، وإلى ما بين 8 و10 درجات تحت الصفر في ساعات النهار.
وما زاد من الأزمة، هو تعرض أوزبكستان الحبيسة جغرافياً لانقطاع في صادرات الغاز الطبيعي من جارتها تركمانستان، لظروف الطقس شديد البرودة، وفق ما أعلنت وزارة الطاقة في طشقند في الثامن عشر من الشهر الماضي. وأشارت الوزارة في بيان لها آنذاك إلى أن تركمانستان أوقفت أيضاً 20% من صادرات الكهرباء إليها، وهو ما فاقم من أزمة انقطاع التيار الكهربائي المستمرة منذ أشهر بالأساس.
وتعد أوزبكستان أكبر دولة من حيث عدد السكان في وسط آسيا، بـ36 مليون نسمة تقريباً. وترتبط كلا الدولتين باتفاقية ثنائية موقعة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي لتوريد 1.5 مليار متر مكعب إضافية من الغاز الطبيعي خلال موسم الشتاء، لكن يبدو أن قدرة تركمانستان على الوفاء بالاتفاق ما زالت محل اختبار.
وتأتي أزمة الطاقة في أوزبكستان رغم الثروة الباطنية الكبيرة التي تحظى بها. إذ تعد من أكبر الدول المنتجة للغاز في العالم، بحجم إنتاج يصل إلى 52 مليار متر مكعب سنوياً. وكانت تصدر 10% منه إلى الصين، ثم أوقفت التصدير بالكامل منذ ديسمبر/ كانون الأول 2022.
شبهات فساد
ووفق التحقيق الاستقصائي الذي نشره "Radio Ozodlik"، فإن الكثير من مشروعات الطاقة التي جرى الاتفاق عليها في السنوات الأخيرة تحوم حولها شبهات فساد، خاصة التي ترتبط بكيانات ذات صلة برجال أعمال روس.
وفي عهد الرئيس الراحل إسلام كريموف، وقعت أوزبكستان العديد من صفقات تطوير الغاز وخطوط الأنابيب مع شركات الطاقة الروسية، بما في ذلك غازبروم. ومع ذلك، نظر كريموف إلى نوايا موسكو في آسيا الوسطى بريبة خلال أكثر من عقدين في السلطة، حتى أنه رفض الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي ينتمي إليه بوتين.
بعد وفاة كريموف في سبتمبر/ أيلول 2016، بدأ بوتين وغازبروم على الفور في التقرب من ميرزوييف، الذي عينه البرلمان بعد أيام رئيساً مؤقتاً للبلاد. وسرعان ما أصبح واضحاً أنهم وجدوا شريكاً راغباً في أن يكون زعيماً جديداً لأوزبكستان.
وفي الأشهر التي تلت ذلك، أصدر ميرزوييف سلسلة من المراسيم التي تمنح حقوق التنقيب والتطوير المربحة لحقول الغاز الأوزبكية الواعدة إلى مشروع مشترك تأسس في أكتوبر/ تشرين الأول 2016 من قبل شركة الطاقة الحكومية "أوزبك نفتوغاز" وشركة سويسرية تابعة لشركة غازبروم الروسية. تبع ذلك تنفيذ سلسلة من المشروعات وتوقيع اتفاقات.
لكن التحقيق الاستقصائي لفت إلى أن مشاريع النفط والغاز الحكومية مليئة بسوء التقدير وعدم الكفاءة والمبالغة في التكاليف الاستثمارية وانعدام الشفافية. وتقدر شركة الطاقة البريطانية العملاقة "بي بي" إجمالي احتياطيات الغاز المؤكدة في أوزبكستان بحوالي 800 مليار متر مكعب.
واستهدف ميرزوييف من وراء مبادرة تطوير قطاع الطاقة إلى زيادة إنتاج الغاز بمقدار 6.35 مليارات متر مكعب سنوياً. لكن ما تحقق وصل إلى 33% فقط من هذا الرقم في عام 2018. ووسط الطقس البارد ونقص الغاز في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أصدرت وزارة الطاقة الأوزبكية بياناً قالت فيه إن إنتاج شركة "أوزبك نفتوغاز" يتراجع عاماً بعد عام، وعزت هذا الاتجاه إلى استنفاد الاحتياطيات و"الحوادث" في الحقول التابعة.
لكن التقرير السري الذي أشار إليه التحقيق الاستقصائي قدم صورة مختلفة، لافتا إلى أن "إسناد المشروعات تضمن انتهاكات جسيمة تعيق التنمية المستدامة لصناعة النفط والغاز وتتعارض مع مصالح الدولة".
ولم تقتصر سيطرة المتنفذين الأوزبك والروس على مئات حقول النفط والغاز في الدولة، وفق التحقيق، وإنما امتدت إلى تسليم السيطرة على منشأة تخزين رئيسية في منطقة "غازلي" إلى شركة روسية مملوكة "اسميا" لـ"عايدة شاشكاليا"، التي كانت تعمل مساعدة قانونية في سانت بطرسبرغ، والتي أشار التقرير إلى أن لديها علاقات تجارية مع الملياردير الروسي تيموشينكو المقرب من بوتين.
ومنشأة التخزين هذه تقع في قلب شبكة نقل الغاز في أوزبكستان، وتوجد عند تقاطع طرق خطوط الأنابيب التي تصل إلى روسيا وتركمانستان وكازاخستان والصين.