تتصاعد المخاوف في تركيا من أثر ارتفاع أسعار النفط والغاز عالميا على تكاليف الإنتاج والمستهلك النهائي، وكذلك الميزان التجاري للدولة التي تحتل المرتبة الأعلى من حيث الطلب على الطاقة بين دول منظمة التعاون والتنمية.
فتركيا، التي تستورد سنوياً نحو 360 مليون برميل نفط، تزيد تكاليف استيرادها للطاقة، من نفط وغاز، عن 43 مليار دولار، قبل الارتفاعات المستمرة خلال العام الجاري للزيت الأسود إثر تعافي الاقتصاد العالمي من إغلاقات كورونا ومؤشرات انخفاض المخزون العالمي.
وتشير توقعات مسؤولين حكوميين وبنوك استثمار عالمية ومختصين في قطاع الطاقة إلى إمكانية وصول أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل هذا الشتاء، فيما سجلت قفزات قياسية هي الأعلى في سنوات، خلال الأيام الأخيرة، بتخطي خام برنت 86 دولاراً للبرميل، وفق تعاملات اليوم الاثنين.
وبحسب تصريحات أخيرة لماركو دوناند، الرئيس التنفيذي لشركة ميركوريا إنيرجي جروب لتداول السلع والطاقة، فإن "من المحتمل وصول سعر النفط في الأسواق العالمية خلال فصل الشتاء المقبل إلى 100 دولار للبرميل، في حين أن النطاق الأكثر احتمالا للسعر يتراوح بين 80 و90 دولارا للبرميل".
تركيا تعتمد على استيراد الطاقة لتلبية نحو 90% من احتياجاتها، رغم مساعيها لرفع الإنتاج المحلي من النفط والغاز
كما توقع وزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار، قبل أيام، وصول أسعار النفط في عام 2022 إلى 100 دولار للبرميل، مشيرا إلى أن ذلك يرتبط بانخفاض المخزون العالمي من النفط. ودارت توقعات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت سابق من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حول نفس الرقم.
وتتخوف الوساط الاقتصادية في تركيا من احتمال أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى إرباك الاقتصاد، الذي يعتمد بأكثر من 90% من الطاقة المستخدمة على الاستيراد، رغم المساعي لرفع الإنتاج المحلي الذي وصل إلى نحو 61 ألف برميل يومياً، بحسب تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ورغم بقاء الواردات عند مستويات مرتفعة، فإن المحلل الاقتصادي التركي يوسف كاتب أوغلو يقول إن فاتورة استيراد الطاقة من نفط وغاز في تراجع مستمر، مشيرا إلى أن الإنتاج المحلي، اليوم، يسد نحو 10% من الاستهلاك، وسد الفجوة سيستمر العام المقبل، بعد بدء استثمار الآبار الجديدة في ولاية ديار بكر (جنوب شرق)، ليصبح كامل إنتاج النفط المتوقع نحو 120 ألف برميل.
وأضاف كاتب أوغلو في حديث مع "العربي الجديد" : "عام 2023 لن تتجاوز فاتورة استيراد الطاقة 10 مليارات دولار، بعد استثمار الحقول المطمورة والمكتشفة حديثاً، وبعد البدء باستثمار الغاز الذي تقدر احتياطياته بنحو 540 مليار متر مكعب، وهو ثلث الاكتشافات المتوقعة لاحقاً، وستتحول تركيا عام 2030 إلى بلد مصدر للطاقة وليس إلى مكتف محلياً فقط".
وتابع أن بلاده تحسبت سابقاً من أي ارتفاع لأسعار النفط والغاز، فأبرمت عقوداً آجلة مع قطر وليبيا وأذربيجان وإيران والجزائر بالأسعار الرائجة، وبعض العقود بأسعار تفضيلية، كما ستحاول التسريع بمشروعات الطاقة البديلة ومفاعل "أكويو" بالتعاون مع روسيا، لإنتاج الطاقة السلمية من المفاعل النووي.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أكد، في مارس/ آذار الماضي، أنه من المقرر أن تبدأ محطة "أكويو" للطاقة النووية في تركيا العمل في 2023، وذلك خلال مراسم وضع حجر الأساس لثالث مفاعل نووي في المحطة التي تشيدها شركة روساتوم الروسية المتخصصة في الطاقة النووية.
ويهدف المشروع، الذي تبلغ تكلفته 20 مليار دولار، إلى بناء أربعة مفاعلات في إقليم مرسين التركي المطل على البحر المتوسط. وهو أحد أكبر مشروعات الطاقة النووية الجديدة في العالم، وسيتيح لتركيا الانضمام إلى مجموعة صغيرة من البلدان التي تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية.
ولكن، إلى أن يتوازن الميزان التجاري للطاقة، ستدفع تركيا ثمن غلاء أسعار النفط المتوقعة "ولكن بمستويات أقل من الدول المستوردة الأخرى"، وفق ما يقول المحلل الاقتصادي التركي باكير أتاجان، لأن بلاده لديها عقود آجلة، بل وبأسعار تفضيلية مع أذربيجان خاصة، وهي ما ستقيها من صدمة ارتفاع أسعار الطاقة.
وقال أتاجان إن زيادة أسعار الطاقة لن تؤثر كثيراً على منافسة السلعة التركية في الأسواق العالمية، لأن ارتفاع تكاليف الإنتاج عام على كل الدول، وتبقى بلاده تدعم الصادرات، وأن تكاليف الإنتاج بتركيا منخفضة قياساً بالدول الأوروبية وغيرها.
وأشار إلى أن الميزان التجاري التركي خاسر بنحو 49.9 مليار دولار العام الماضي، ولكن لم تزد الصادرات وقتها عن 169.5 مليار دولار، في حين أن التوقعات لهذا العام أن تزيد الصادرات عن 200 مليار دولار، بمعنى لن يزيد ارتفاع أسعار الطاقة من عجز الميزان التجاري، بل على العكس سيتقلص.
وحول أثر فاتورة النفط المتوقع ارتفاعها على تبديد مزيد من الدولارات وسعر الليرة التركية التي فقدت أكثر من ربع قيمتها منذ بداية العام الجاري لتلامس 9.8 للدولار الواحد، يرى المحلل التركي أن "الربط غير دقيق"، فتركيا تدفع تلك الفاتورة المتناقصة تباعاً منذ سنين، ولم نكن نرى هذا التراجع لسعر العملة، معتبراً أن للأسباب السياسية والتحشيد على بلاده، من دول أوروبية وعربية، السبب الأهم بالعامل النفسي، على الاستثمارات والمضاربين وبالتالي سعر صرف الليرة التركية.
لكن المواطن التركي، برأي مراقبين، يدفع فاتورة غلاء أسعار النفط، بعد رفع فاتورة الطاقة أخيراً بنحو 15% للكهرباء والغاز والمشتقات النفطية، ما رفع أسعار السلع والمنتجات بعد تسجيل مؤشر أسعار المستهلك "التضخم" ارتفاعاً بنسبة 19.58% على أساس سنوي في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد ارتفاع مؤشر أسعار المنتجين 43.96% على أساس سنوي الشهر الماضي.
ويرى الخبير الاقتصادي التركي خليل أوزون أن ارتفاع أسعار الغذاء هو حالة عالمية، وهذا لا يعني أن الأسعار بتركيا لم ترتفع أو لن تؤثر على القدرة الشرائية للمستهلكين، كما أن رفع أسعار الطاقة بتركيا، أخيراً، بنحو 15% زاد ولا شك تكاليف الإنتاج، وبالتالي رفع أسعار المستهلك، لكن الدولة رفعت الحد الأدنى للأجور، وتقدم دعماً مباشراً وبطرائق متعددة، سواء عبر التدخل في البيع بالأسواق وبأسعار منافسة أو ملاحقة الاحتكار وجشع التجار.
ولفت أوزون إلى أن بلاده، التي خرجت لتوها من آثار كورونا، تعاني من استهداف سياسي وضغط متعدد الجبهات، وهذا سبب مهم برأيه لتراجع سعر الصرف الذي يعتبره السبب الرئيس لزيادة الأسعار ونسب الفقر.
وكانت تقارير تركية ودولية قد حذرت من زيادة نسبة الفقر والبطالة بواقع التراجع المستمر لسعر صرف العملة التركية، ما رفع أسعار المستهلك بنسب أعلى من زيادة الأجور السنوية بتركيا.
وكان البنك الدولي قد كشف سابقاً عن ارتفاع معدل الفقر في تركيا للعام الثاني على التوالي، مبيناً أن نسبة الفقر وصلت العام الماضي إلى 12.2%، مقابل 10.2% في 2019.
الليرة فقدت أكثر من ربع قيمتها منذ بداية العام الجاري لتلامس 9.8 للدولار الواحد حالياً
كما أشارت دراسة "حدي الجوع والفقر في تركيا"، التي أجراها اتحاد العمال التركي عن تأثير كورونا والتضخم على الأسر منخفضة الدخل، إلى بلوغ حجم النفقات الغذائية الشهرية اللازمة لأسرة مكونة من 4 أفراد، للحصول على التغذية السليمة والمتوازنة، 2719 ليرة، في حين بلغ حجم النفقات الشهرية الضرورية الأخرى، التي تتضمن الملابس والمسكن والمواصلات والتعليم والصحة والاحتياجات المشابهة، نحو 8856 ليرة.
وكانت وزارة الأسرة والعمل التركية قد رفعت نسبة الأجور، بعد عدم صوابية التوقعات السابقة بأن نسبة التضخم ستكون العام الجاري 8%، لتصل نسبة زيادة الأجور إلى 21.56% ويبلغ الحد الأدنى للأجور، بعد الزيادة، 3577 ليرة تركية قبل اقتطاع الضرائب.