تعمل الشبكة العالمية للناقلات وخطوط الأنابيب والمصافي النفطية التي تصنع الوقود المفيد من النفط الخام، على أنماط استهلاك طويلة الأمد: الكثير من البنزين لسائقي العالم، وكمية معينة من الديزل للشاحنات ونسبة من وقود الطائرات.
إلا أن الاقتصاد الوبائي قلب كل ذلك رأساً على عقب، وأعاد تشكيل الطلب جذرياً، حيث تتعافى أجزاء مختلفة من الأنظمة العاملة على الطاقة بسرعات مختلفة.
وأقنع الخوف من فيروس كورونا ملايين الناس بالتخلي عن وسائل النقل الجماعي وركوب سياراتهم. في هذه الأثناء، السفر الدولي يعود ببطء، وآلاف الطائرات متوقفة عن العمل. تحركت هوامش أرباح التكرير في أوروبا من البنزين والديزل في اتجاهين متعاكسين.
وعلى الرغم من أن أسعار النفط الخام لا تزال في حالة ركود، عالقة بالقرب من 40 دولاراً للبرميل خلال الأشهر الأربعة الماضية، إلا أن انتعاش الطلب بثلاث سرعات بدأ يظهر في زوايا غامضة من سوق النفط.
ويشرح تقرير وكالة "بلومبيرغ" أن الهند، التي دمرها تفشي فيروس كورونا، بدأت في استيراد البنزين. في أوروبا، يستخدم السائقون الوقود بقدر ما كانوا يستخدمونه قبل الوباء، على الرغم من أن النشاط الاقتصادي العام لا يزال منخفضاً.
في آسيا، حيث كان التباين أقوى، تراجعت مخزونات البنزين في الأسابيع الأخيرة. على النقيض من ذلك، لا يزال سوق وقود الطائرات، الذي يمثل نحو 8 في المائة من السوق العالمية في فترة ما قبل الجائحة، رديئاً.
من جهة أخرى، هناك مصافي النفط، حيث تُنتَج مليارات الأطنان من النفط الخام وتُحوَّل إلى محروقات مختلفة كل عام. في معظم أنحاء العالم، تعمل هذه الأجهزة بأقل من طاقتها، لأن المستهلكين لا يدفعون ما يكفي لشراء الديزل، ويخفضون الرحلات بالطائرات.
في المقابل، قال باتريك بوجان، الرئيس التنفيذي لشركة توتال، أكبر شركة تكرير في أوروبا، إن الطلب على الوقود في أوروبا "يكاد يصل إلى المستوى الذي كان عليه قبل عام. ما زلنا نواجه أسعار نفط منخفضة، فيما هوامش أرباح التكرير مروّعة للغاية". تفاوت شديد بالطلب وتمتلك المصافي مجالاً لتعديل كمية النفط الخام التي تحولها إلى المنتجات البترولية المكررة الرئيسية، لكن هذا لا يحل المشكلة.
مع انهيار الطلب على وقود الطائرات، استجاب مهندسو التكرير بتحويل أكبر قدر ممكن من وقود الطائرات إلى إنتاج الديزل. كان الاعتقاد السائد، أن الطلب على الديزل المستخدم في الشحن والبناء والنقل العام أكثر مرونة من البنزين.
وبدلاً من ذلك، عندما تجنب الناس القطارات والحافلات لصالح سياراتهم، تعافى الطلب على الديزل بشكل أبطأ من البنزين.
ومع ازدهار إنتاج الديزل، كانت النتيجة تخمة هائلة. وقالت أمريتا سين، المؤسسة المشاركة لشركة "إينيرجي أسبكت" إن "الاسترداد الموحد في أسواق المنتجات النفطية سيكون بعيد المنال إلى أن يوزَّع لقاح كورونا على نطاق واسع. كذلك إن الطلب على وقود الطائرات في غيبوبة".
الهند، المستهلك الثالث للنفط في العالم، هي رمز لمشاكل التكرير العالمية. في سبتمبر/ أيلول، سجل الطلب الهندي على البنزين زيادة سنوية بنسبة 2.1 في المائة عن ذات الشهر من العام الماضي، حيث استخدم سكان المدن سياراتهم الخاصة للذهاب إلى العمل. في الوقت نفسه، انخفض الطلب على الديزل بنسبة 7.3 في المائة، وانخفض الطلب على وقود الطائرات بأكثر من 52 في المائة.
وقد ترك ذلك شركات التكرير في البلاد أمام مهمة شاقة تتمثل بمواجهة اتجاهات الاستهلاك المتضاربة. استجاب أحد المصانع الحكومية من خلال استيراد البنزين، لأنه لن يكون من المربح تشغيل وحداته التي تعمل على الديزل في هذا الوقت.
ونظراً لأن الأميركيين أقل عرضة بكثير للاعتماد على وسائل النقل العام، مقارنة بأجزاء أخرى من العالم، فإن كورونا يعني قيادة أقل، لأن الشركات تسرّح الوظائف أو تتحول إلى العمل عن بعد. كذلك، إن العديد من طلاب البلاد لا يذهبون إلى المدارس، ما يزيد من خنق الاستهلاك. فيما قطع الأميركيون 14.9 مليار ميل بين الولايات في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر، أي أقل بنحو مليار ميل، مقارنةً بالوقت ذاته من العام الماضي، وفقاً لوزارة النقل الأميركية. وساعدت عمليات المصفاة المخفضة منذ البداية على إبقاء مخزونات البنزين أعلى بقليل من المعتاد في هذا الوقت من العام.
لكن مصافي التكرير في البلاد تغرق في وفرة من وقود الديزل، ليس بسبب نقص الطلب، حيث ازدهر النقل بالشاحنات مع تحرك الاقتصاد الرقمي، بل لأن وقود الطائرات يضخم وعاء ما يسمى نواتج التقطير، حيث يبلغ الطلب على الوقود العالق نحو 50 في المائة من متوسط الخمس سنوات لهذا الوقت من العام. وتقترب مخزونات زيت الوقود المقطر في الولايات المتحدة من أعلى مستوياتها موسمياً منذ عام 1991.
وأدت تخمة نواتج التقطير إلى سحق هوامش الربح، وأجبرت مصافي التكرير الكبرى على إغلاق الوحدات التي تنتج الوقود. في الصين، الاقتصاد الرئيسي الذي يتعافى سريعاً من الوباء، كان الطلب على الوقود أول ما انتعش بعد انتشار كورونا.
وارتفع استهلاك البنزين إلى مستويات ما قبل الفيروس، حيث يتجنب الركاب شبكات مترو الأنفاق. وبينما تعافت الرحلات الجوية الداخلية بنحو ملحوظ، لا يزال السفر الدولي يسير بخطى ثقيلة.
أما الديزل، فهو عالق في الوسط، ما أدى إلى بعض الأسعار المرتفعة في سنغافورة، مركز تجارة النفط في آسيا. وأظهرت بيانات بلومبيرغ أن البنزين المعياري كان هناك عند 3.26 دولارات للبرميل علاوة على الديزل في 28 سبتمبر، وهو أعلى مستوى منذ 2017 على الأقل. بالعودة إلى شهر مارس/ آذار، كان سعر وقود السيارات 25 دولاراً.
المصافي الأوروبية وتكافح مصافي التكرير في أوروبا بذات الديناميكية، ما أدى إلى تصدع الديزل مقارنة بالنفط الخام ليهبط أقل من دولارين للبرميل في الأسابيع الأخيرة. على الورق، يجب أن تتمتع المنطقة بميزة واحدة، وفق بلومبيرغ، إذ لطالما أنتجت كميات زائدة من البنزين، فقد استهلك الأوروبيون أكثر من ضعف كمية الديزل في العام الماضي مما استهلكوا من البنزين، وفقاً لبيانات شركة "بي بي".
ونظراً لأن مصافي المنطقة تنتج البنزين أكثر مما يُستهلَك، تُشحَن الإمدادات الفائضة على متن ناقلات إلى نيويورك ومدن أخرى على الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
على النقيض من ذلك، فإن القارة لا تنتج ما يكفي من الديزل، وبالتالي فهي عادة نقطة جذب للموردين من جميع أنحاء العالم. تستورد أوروبا منتجات النفط، عادة الديزل ووقود الطائرات، من مناطق تشمل آسيا والشرق الأوسط وروسيا والولايات المتحدة. تباطأت التدفقات منذ ذروة الصيف، لكنها بالتأكيد لم تتوقف.
بحلول أواخر سبتمبر، وصلت أكثر من 20 ناقلة وقود من الخليج العربي وحده. المزيد موجود على الطريق باتجاه القارة العجوز، بما في ذلك الكميات المستوردة من الهند وشرق آسيا. على أي حال، لا يزال الطلب على الديزل ضعيفاً نسبياً مقارنة بالبنزين، وفقاً لاثنين من التجار الأوروبيين للمنتجات البترولية. ويمكن تحويل نحو 3 في المائة من الخام المعالج في المصفاة من إنتاج الكيروسين، الذي يتطابق إلى حد ما مع وقود الطائرات، نحو تصنيع الديزل، وفقاً لشركة "أويل أناليتيكس"، وهي شركة تتعقب هوامش التكرير على مستوى العالم.
وتمكنت مصافي التكرير، إلى حد ما، من التعامل مع التعافي ثلاثي السرعات، لأنها قلّلت كمية النفط التي تعالجها، ما يمنحها مرونة أكبر في ما تنتجه.
وقال جان جاب فيرشور، المحلل في أويل أناليتيكس: "لقد كانت التغييرات في الطلب على المنتجات كبيرة، بحيث تُستَغَلّ كل المرونة الإضافية التي توفرها معدلات التشغيل المنخفضة إلى أقصى حد. لم يبقَ سوى قدر ضئيل من المرونة في المنظومة النفطية".