القمح هو المادة الأساسية في صناعة الخبز. والخبز هو الغذاء الرئيس لمعظم سكان العالم. وفي دول عربية كثيرة، يسمى الخبز بالعيش الذي يعني الحياة. فهو المصدر الأساسي للطاقة والبروتين في تلك الدول، فيوفر 70 بالمائة من السعرات الحرارية للفرد، وتعتمد عليه الشعوب العربية الغفيرة في ملء البطن وإقامة الصلب.
ولأهميته الاستراتيجية، تحول القمح من مجرد سلعة غذائية إلى سلعة سياسية، استخدمته الدول الكبرى سلاحاً لترويض الشعوب وتقويض حركات التحرر. وفي عام 1943، منع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل متعمداً الأسطول التجاري البريطاني من توصيل القمح والأرز إلى سكان ولاية البنغال الهندية لتقويض حركة استقلال البلاد، ما أدى إلى موت 3.5 ملايين هندي. واستخدمت الولايات المتحدة هذه السياسة في حصار العراق مدة 13 سنة حتى احتلاله في 2003.
وفي سنة 1973، منع الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز البترول عن الغرب من أجل القضية العربية العادلة، فرد هنري كسينجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، بقوله "سنعطيهم بكل قطرة بترول حبة قمح". وفي سنة 1974، قال كيسنجر إن نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة سلطة لم تكن تملكها من قبل، إنها سلطة تمكنها من ممارسة السيطرة الاقتصادية والسياسية تفوق تلك التي مارستها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وتُعزى سياسة "استخدام الغذاء سلاحاً" بشكل عام إلى هنري كسينجر وإيرل بوتز، وزير الزراعة في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وتقوم الفكرة على أن الولايات المتحدة يمكن أن تجوع دولة أخرى لإخضاعها، ليس بحصار عسكري، ولكن ببساطة عن طريق رفض بيعها أو إعطائها القمح.
وقد برع برنارد شو في تصوير هذه السياسة بقوله "السعادة مثل القمح، يجب ألا نستهلكه إذا لم نساهم في إنتاجه"، لأن الاعتماد على الغير للحصول على الخبز سيؤدي إلى التبعية وإهدار السيادة والاستقلال السياسي. ولخص السياسي الفرنسي الكونت دي ميرابو أهمية القمح الاستراتيجية بقوله إن جميع مشاكل السياسة تخرج من حبة القمح.
وبعد نجاحها في استنباط بذور قمح غزيرة الإنتاج في بداية الثورة الخضراء، استخدمت الولايات المتحدة الأميركية القمح ضمن السياسات التي ساعدتها في إنشاء النظام العالمي الجديد في منتصف القرن الماضي. وكانت معونات القمح أحد الأسلحة التي استخدمتها لإسقاط الأنظمة القديمة والتمكين للأنظمة العميلة وتجنيدها ضد الشيوعية. وفي سورية، عندما كانت تفشل الأسلحة العسكرية في حسم المواجهة، كان فلاديمير بوتين يستخدم سلاح القمح وتجويع المدنيين لمساومة المقاومة.
وفي هذه الأيام، زادت أسعار القمح بنسبة 50 بالمائة بسبب توقف صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا التي تمثل ثلث المتاح في السوق الدولية تقريبا. وفي المنطقة العربية، زادت أسعار الدقيق والخبز بنفس النسبة، ليكتشف المواطن العربي لأول مرة تقريبا أن الحكومات العربية تستورد 60 بالمائة من القمح من روسيا ومن أوكرانيا، وأن كل ثلاثة أرغفة يأكلها المواطن، يأتي اثنان منها من روسيا وأوكرانيا.
أما كيف تحولت روسيا من الاعتماد على القمح الأميركي إلى أكبر مُصدر للقمح في العالم، متفوقة على الاتحاد الأوروبي المكون من 28 دولة والولايات المتحدة التي ظلت أكبر مصدر للقمح في العالم منذ وراثتها الإمبراطورية البريطانية، فهي قصة جديرة بالدراسة، لارتباطها مباشرة برغيف خبز المواطن العربي، ولأنها قصة فريدة لم تتكرر في التاريخ من قبل، أو في العصر الحالي على الأقل، وربما تكون عبرة للحكومات العربية للاستفادة منها في أزماتها المتكررة.
مر الأمن الغذائي في الاتحاد السوفييتي وروسيا بست مراحل خلال القرن الماضي. الأولى، تراجع فيها إنتاج الاتحاد السوفييتي من القمح والحبوب بسبب سياسات جوزيف ستالين الشيوعية في العشرينيات، ما أدى إلى مجاعة مروعة قتلت 4 إلى 10 ملايين شخص.
في المرحلة الثانية، تحول الاتحاد السوفييتي إلى الاكتفاء الذاتي من القمح، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الستينيات، وهي مرحلة القوة.
وفي المرحلة الثالثة، أهمل الاتحاد الإنتاج الزراعي مرة أخرى، وتراجع إنتاج القمح بدرجة كبيرة ليصبح أكبر مستورد للقمح في العالم منذ بداية السبعينيات وحتى تفككه في سنة 1991.
ومن المفارقات السياسية أن الاتحاد السوفييتي كان يحصل على احتياجاته من القمح والسلع الغذائية الأخرى من عدوه اللدود، الولايات المتحدة، بطرق غير مباشرة. وبلغت ذروة اعتماده على الولايات المتحدة في سنة 1985 عندما اشترى 55.5 مليون طن من القمح والذرة، وهو رقم قياسي لدولة واحدة في عام واحد. ومن الدروس المهمة هنا أن أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي هو التبعية الغذائية وتراجع الإنتاج الزراعي.
وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، انتهجت وريثته روسيا سياسات زراعية مغايرة للنظام الاشتراكي. ورغم تحسن الإنتاج الزراعي، ظلت روسيا تستورد نصف احتياجاتها الغذائية من الخارج حتى تولى فلاديمير بوتين سدة الحكم في سنة 2000. ومما تنقله وسائل الإعلام الروسية أن بوتين، عندما صار لتوه رئيسا، قيل له في أول اجتماع وزاري إن روسيا استوردت أكثر من نصف احتياجاتها من الغذاء والقمح من الخارج فامتعض.
ومنذ هذه اللحظة، قرر بوتين تغيير واقع التبعية والاعتماد على الغرب إلى الاكتفاء الذاتي من القمح والذرة واللحوم لامتلاك السيادة الغذائية، وهي المرحلة الرابعة.
وقامت سياسة بوتين للاكتفاء الذاتي على التوسع الأفقي بزيادة المساحة المزروعة بالقمح بنسبة 50 بالمائة، والتوسع الرأسي بالاستثمار في تكنولوجيا البذور غزيرة الإنتاج، فتضاعفت الإنتاجية ثلاث مرات، ودعم المزارعين بالأسمدة الزراعية والقروض المالية والمعدات الزراعية اللازمة للزراعة والحصاد.
وأتت سياسته الجديدة أكلها بعد سنتين فقط، وزاد إنتاج القمح إلى 30 مليون طن في البداية، رغم صعوبات المناخ والجليد الذي يغطي الأرض والأمطار الغزيرة طوال فصول السنة. ثم دخلت روسيا المرحلة الخامسة حيث تحولت من الاكتفاء الذاتي إلى التصدير. بدأت روسيا بداية متواضعة بتصدير 696 ألف طن من القمح. وبعد خمس سنوات من حكم بوتين، أصبحت روسيا خامس أكبر دولة مصدرة للقمح في العالم.
وفي العام 2009، أصدر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف قرارا بإنشاء شركة حكومية تقوم ببناء البنية التحتية لنقل وشحن وتخزين القمح في الصوامع الحديثة بتكلفة 3.3 مليارات دولار. وفي سنة 2010، أصدر بوتين "ميثاق الحبوب" كمشروع قومي لمضاعفة إنتاج القمح. وبالفعل، تضاعف الإنتاج إلى 60 مليون طن.
المرحلة السادسة، وهي تصدر روسيا الدول المصدرة للقمح لأول مرة في التاريخ، وذلك بعد ست سنوات من ميثاق الحبوب، وتربعت روسيا على مقعد أكبر مصدر للقمح في العالم في سنة 2016. وتفوقت على الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة. واحتفل بوتين في مؤتمر صحافي بتصدير 41 مليون طن من القمح، وكشف عن هدف شخصي للسيطرة على تجارة القمح في العالم بقوله "أصبحنا رقم واحد، لقد هزمنا الولايات المتحدة وكندا".
في سنة 2012، تحدى بوتين نفسه بالإعلان عن خطة لمضاعفة صادرات القمح خلال ثمان سنوات، يعني في سنة 2020. ولكن بحلول عام 2018، حقق بوتين هدفه وضاعفت روسيا صادرات القمح بأكثر من الضعف إلى 41 مليون طن. ولا يزال يمثل رقماً قياسياً عالميا، لم يحققه أحد سوى الولايات المتحدة الأميركية التي بلغت ذروة صادراتها 47 مليون طن في 1981 عندما كانت تستخدم القمح سلاحاً سياسياً ولا تزال.
ومنذ ذلك الحين، تحافظ روسيا على موقع الصدارة بتصدير 35 إلى 40 مليون طن من القمح سنويًا. وتفوقت أيضا بعرض أسعار أقل مما تعرضه الولايات المتحدة والدول المصدرة الأخرى. حيث استغلت الجودة المنخفضة للقمح الروسي بسبب محتواه العالي من الحشرات والفطريات السامة في تخفيض السعر عن القمح الصادر من الولايات المتحدة وكندا بحوالي 50 إلى 100 دولار في الطن الواحد.
استهدف بوتين، ضابط المخابرات السوفييتية السابق، بيع القمح للدول الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأسعار زهيدة، وأغرق السوق التقليدية للقمح الأميركي بالقمح الروسي. إلى درجة أن الولايات المتحدة أغلقت مكتب مؤسسة القمح الأميركي المسؤولة عن تسويق القمح الأميركي في مصر في ديسمبر/كانون الأول 2017 بعد أن ظل يعمل لعقود. وذكرت وكالة رويترز أن هذه الخطوة تأتي بعدما خسرت الولايات المتحدة حصة تصدير القمح إلى مصر وتحولها للاستيراد من روسيا.
وهي سياسة ماكرة وخطيرة، أدت إلى اعتماد الحكومات العربية اعتمادا شبه كلي على القمح الروسي الرخيص، ونسيان خطط الاكتفاء الذاتي، وعدم الاكترات لإطعام شعوبها غذاء صحيا. لدرجة أن وزير التموين في مصر قال بصراحة في مقابلة تلفزيونية، لماذا ننتج القمح ونحن نشتريه بتكلفة أقل من أن ننتجه محليا؟
وفي لحظة تاريخية فارقة في منتصف 2010، حظر رئيس الوزراء في حينه، فلاديمير بوتين -خلال جلسة متلفزة لمجلس الوزراء- تصدير القمح والدقيق والذرة والحبوب الأخرى. وقال إنه اتخذ القرار لمنع زيادة الأسعار المحلية، وتوفير احتياطيات للعام المقبل بسبب الحرائق التي دمرت 20 بالمائة من محاصيل القمح.
ومن المفارقات أن صحيفة (آسيا نيوز) التي نقلت الخبر قالت إن القرار يمكن أن يتسبب في تجويع مناطق بأكملها في الشرق الأوسط. وبالفعل اشتعلت ثورات الربيع العربي، وخسرت الولايات المتحدة الأنظمة الحليفة. وها هي الأزمة تتكرر بعد عشر سنوات، فهل يأخذ الحكام العرب العبرة من الحرب على أوكرانيا، والدرس من التجربة الروسية؟