في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن صندوق النقد الدولي توصله لاتفاق مع الحكومة المصرية، على مستوى الفنيين، بخصوص منحها تسهيل بمبلغ 3 مليارات دولار، يقدم على مدار 46 شهراً، بالإضافة إلى مساعدتها في الحصول على 6 مليارات دولار أخرى، منها واحد من صندوق الاستدامة، التابع لصندوق النقد، حال التزام مصر بتنفيذ بعض الاشتراطات.
وفي البيان الرسمي الذي أصدره وقتها، رحب الصندوق بالخطوات التي اتخذتها الحكومة المصرية، والخاصة بالإلغاء التدريجي لإلزام المستوردين في مصر بنظام الاعتمادات المستندية.
وكان طارق عامر، المحافظ السابق للبنك المركزي المصري، قد ألغى نظام مستندات التحصيل واسع الانتشار في مصر، وألزم المستوردين بفتح اعتمادات مستندية عند رغبتهم في الاستيراد، أملاً في الحد من الواردات، التي تسببت في اتساع عجز الميزان التجاري، وأثقلت البلاد بالديون لسد ذلك العجز.
وقتها، أبدى بعض المتخصصين، الذين عاصروا فترة حصول مصر على عدة قروض سابقة من الصندوق؛ أولاً بقيمة 12 مليار دولار في 2016، تبعها قرضان إجمالي قيمتهما 8 مليارات دولار في 2021، دهشتهم من ذكر موضوع إلغاء إلزام المستوردين بنظام الاعتمادات المستندية في البيان الصادر عن الصندوق، حيث لم يكن في بيانات الصندوق في المرات السابقة أي إشارة لأي من بنود الاتفاق، بل إن الصندوق والحكومة كانا يصران كل الوقت على أنه لا توجد اشتراطات من الصندوق.
وقبل أسبوعين، أعلن الصندوق موافقة مديريه التنفيذيين النهائية على منح مصر التسهيل المقدر بنحو 3 مليارات دولار، والذي توقع الصندوق أن يسهل حصول مصر على تمويلات أخرى بنحو 14 مليار دولار، سواء في صورة استثمارات في شركات مصرية، أو أدوات دين، أو في صورة قرض ثنائي مباشر.
ومع إعلان الصندوق موافقته الرسمية على منح مصر القرض، أكد البنك المركزي المصري التزامه بإنهاء إلزام المستوردين بنظام الاعتمادات المستندية قبل نهاية العام، وهو ما حدث بالفعل في آخر أيامه، حيث سمح البنك المركزي للمستوردين باستخدام نظام مستندات التحصيل من جديد.
بعد ذلك، تم الإعلان عن إفراج الحكومة عن بضاعة قدرت قيمتها بأكثر من ستة مليارات دولار، من أصل بضائع محتجزة تقدر قيمتها بأكثر من 14 مليار دولار، بسبب عجز البنك المركزي عن توفير قيمتها الدولارية للمستوردين، حتى الآن.
وبدا واضحاً في كل خطوة يقوم بها البنك المركزي المصري في هذا الاتجاه حرصه على إرضاء الصندوق، وتحقيق هدفه في العودة لفتح باب الاستيراد من جديد على مصراعيه.
ويتمثل الفارق الرئيس بين النظامين، نظام الاعتمادات المستندية ونظام مستندات التحصيل، في حجم المبلغ الذي يتعين على المستورد توفيره عند الاستيراد باستخدام أي منهما.
ففي حالة الاعتمادات المستندية، يتعين على المستورد التوجه للبنك، وتوفير مبلغ يصل في بعض الأحيان إلى 140% من المعادل المصري لقيمة البضاعة المستوردة، قبل أن يتم شحن البضاعة من البلد المُصدر.
أما في حالة مستندات التحصيل، فتبدأ العملية بعيداً عن البنك، حيث يرسل المُصدر البضاعة للتاجر الذي يعرفه جيداً في أغلب الأحوال، بعد حصوله على ثلث أو نصف القيمة فقط، ثم يحصل على ما تبقى له بعد استلام المستورد المصري للبضاعة، وأحياناً بعد بيعها في السوق المصرية.
يسمح إذاً نظام مستندات التحصيل للمستورد المصري باستيراد أكثر من ضعف ما تسمح به إمكاناته المادية، بينما يقيد نظام الاعتمادات المستندية المستورد بما تسمح به إمكاناته المادية فقط، بل وأقل من ذلك، بسبب النسب المطلوب منه توفيرها فوق نسبة المائة بالمائة، بالجنيه المصري، لمقابلة التقلبات السعرية، أي ارتفاع سعر الدولار، قبل توفير المبلغ الذي يطلب العميل شراءه، للوفاء بالتزاماته التجارية.
يركز الصندوق، وفقاً لما تقدم، على ما يسمح للنظام المصري بالعودة إلى الاستيراد بقوة، ويسعى لإلغاء القيود التي فرضت خلال الأشهر السابقة، وتسببت في تراجع الاستيراد، رغماً عنا.
لا يهتم الصندوق بما يسببه ذلك من استنزاف العملة الأجنبية التي نحصل عليها بشق الأنفس من القروض، أو نبيع مقابلها حصصاً من شركات تملكها الحكومة، أو نضطر في طريقنا للحصول عليها لتخفيض إنفاقنا على الصحة والتعليم والبحث العلمي، وإنما يهتم بتشجيع التجارة العالمية، ودفع كل الدول، بغض النظر عن إمكاناتها أو حجم العجز في حسابها الجاري، إلى الانخراط فيها.
ولا يحدث ذلك في ما يخص التجارة فحسب، وإنما يمتد ليشمل كل الاشتراطات الأخرى التي يسعى الصندوق لفرضها على البلد المقترض، وإن نفى وجود اشتراطات، أو قالت الحكومة إن هذه الاشتراطات هي جزء من برنامج جديد للإصلاح الاقتصادي.
يشدد الصندوق على ضرورة تعويم الجنيه، أو اتباع نظام صرف أكثر مرونة، بحجة حماية مصر من الصدمات الخارجية، والحقيقة أنه يهدف إلى تخفيض قيمة الجنيه إلى مستويات تجعل الأصول المصرية منخفضة السعر، لتجتذب المستثمرين الأجانب، ويضمن توفير العملة الأجنبية التي تسمح له باسترداد ما أقرضه لنا.
ويشدد الصندوق على ضرورة رفع الفائدة على العملة المحلية، بحجة الحد من الضغوط التضخمية، والحقيقة أنه يعمد إلى اجتذاب الأموال الساخنة من جديد إلى سوق أوراق الدين بالعملة المحلية، حتى يضمن تدفق العملات الأجنبية، ليتمكن من استرداد أمواله.
وأخيراً، يشدد الصندوق على أهمية زيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد المصري، بحجة تعبئة كافة الموارد لتحفيز نمو الاقتصاد، والحقيقة أنه يحاول إيجاد فرص، يقدمها على طبق من ذهب، لكبار مساهميه الراغبين في الاستثمار في بلد المائة مليون مستهلك.
كل الحجج التي يسوقها الصندوق منطقية، لكن الحقيقة أنها في أغلبها "كلمات حق يراد بها باطل"، تخدم المؤسسة الدولية وكبار مساهميها، وتضمن له استرداد أمواله، قبل أن تخدم البلد المقترض.
لم يقل الصندوق أبداً إنه مؤسسة خيرية، ولا يحق لنا أن نعيب من يعمل لتحقيق أهدافه، ولكن العيب كل العيب على من يكرر أخطاءه، بنفس الخطوات، ثم ينتظر اختلاف النتائج.