اتخذ رئيس النظام السوري بشار الأسد إجراءات تقرّبه من المؤسسات المالية الدولية، ومنها صندوق النقد والبنك الدوليين، عبر زيادة وتيرة الخصخصة لقطاعات حيوية وخدمية، ورفع الدعم عن الفئات الفقيرة ومحدودي الدخل. ويأتي ذلك بعد جولات للنظام لتعويم نفسه عربياً عبر تعزيز التعاون الاقتصادي مع الأردن والإمارات وغيرهما من الدول العربية من خلال شراكات تجارية.
وضمن مشروعات حيوية قرّر النظام السوري خصخصتها، اتجه الأسد نحو قطاع الكهرباء، بينما تتفاقم الأعباء المعيشية لملايين السوريين بفعل الغلاء وفرض زيادات متلاحقة على أسعار الطاقة.
وأصدر رئيس النظام مرسوماً يقضي بجواز شراء الكهرباء المنتجة من مشاريع الطاقات المتجددة التي يمكن ربطها مع شبكة النقل أو شبكة التوزيع إذا توافرت الإمكانات الفنيّة لذلك.
واعتبر المرسوم الصادر بداية الشهر الجاري أنّ هذه الخطوة تأتي من أجل المساهمة في تنفيذ استراتيجية الطاقات المتجددة حتى عام 2030، وبهدف تشجيع تنفيذ مشاريع الطاقات المتجددة الكبيرة. ولم يكتفِ النظام بالاقتراب من سياسات المؤسسات الدولية عبر الخصخصة، بل تسارعت خطواته نحو رفع الدعم عن السوريين الذين أنهكتهم الأزمات الاقتصادية.
وتمهيداً لرفع الدعم، واصلت حكومة الأسد سياسة رفع أسعار المشتقات النفطية؛ فبعد رفع سعر طن الفيول ألف ليرة الشهر الماضي، زاد سعر المازوت على الصناعيين إلى 1700 ليرة، ورفع سعر الغاز المنزلي والمازوت المدعوم من 170 إلى 500 ليرة، مؤخراً.
استبعاد شرائح جديدة من الدعم
وكانت حكومة بشار الأسد قد أعلنت، أخيراً، عن "استبعاد الشرائح الميسورة" من دائرة الدعم، ليبدأ منذ مطلع العام الجديد، توجيه الدعم للشرائح الأكثر فقراً، من عاطلين عن العمل وأصحاب الأجور المنخفضة، حسب النظام.
ويؤكد مصدر خاص من دمشق لـ"العربي الجديد" أن اللجنة الاقتصادية في رئاسة الوزراء "أصدرت وثيقة حددت خلالها إخراج 31 شريحة تزعم أنها ميسورة من الدعم"، مبيناً أن مطلع العام الجديد سيتم تطبيق "هذه الوصفة".
وحول مضمون الوثيقة ومن هي الشرائح المستبعدة عن الدعم، يضيف المصدر أن "الأمور لم تُحسم حتى اليوم"، ولكن كل من يمتلك سيارة موديلها بعد عام 2008 سيكون خارج الدعم، وكذلك أصحاب المهن المسجلين بالنقابات، وكل من يمتلك أكثر من منزل.
وقال: "الخطة الأولى إبعاد 25% من السوريين عن دائرة الدعم"، وستليها مراحل أخرى منتصف العام المقبل.
وصفة صندوق النقد
وتعليقاً على إشارات النظام السوري الأخيرة للدائنين الدوليين يتساءل الاقتصادي السوري حسين جميل عن أسباب تركيز حكومة الأسد على سحب الدعم، في فترة وصفها بالأكثر تفقيراً للسوريين، منذ عام 2011، فبعد تخفيض كميات المواد ورفع أسعار جميع السلع المدعومة، بما فيها المشتقات النفطية، بدأت الحكومة تشيع اليوم عن تتمة البرنامج مطلع العام لتخرج شرائح كاملة من السوريين من حظيرة مستحقي الدعم، وتخصّ العاطلين عن العمل أو الذين لا تزيد أجورهم عن الحد الأدنى، ليتم رفع الدعم، حتى عن الخبز.
وحول أسرار رفع الدعم وهل هي وصفة محلية أم خارجية، يشير جميل لـ"العربي الجديد" إلى أن الخطة بدأت بالتراجع التدريجي والتعذر بقلة الموارد المحلية والحصار الاقتصادي، من ثم بارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، لكن الذي زاد شكوكنا في أن الأمر يتعلق بمغازلة المؤسسات الدولية هو أن هذه المرحلة ترافقت مع طرح منشآت حكومية للتشارك والاستثمار، فرأينا 16 شركة صناعية مطروحة للاستثمار وانسحاب الدولة حتى من الصناعات الدوائية ومن ثم توزيع الكهرباء.
ويتابع: كل ذلك يؤكد تطبيق النظام وصفة صندوق النقد والبنك الدوليين، والسعي للحصول على قروض خارجية، بعد إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وانسحاب الدولة مما كانت تسميه "نظام الأبوية"، ثم تراجعت لـ"اقتصاد السوق الاجتماعي" لتصل اليوم إلى حالة ليبرالية ولكن بأجور اشتراكية للسوريين.
ويبيّن جميل أن حكومة الأسد فقدت فرص "التشدق والمتاجرة بالدعم"، فقطاع الصحة والتعليم مدعومان في جميع دول العالم، وما كانت تقدمه للمواد الغذائية وحوامل الطاقة، تم الانسحاب منه تدريجياً ورفع الأسعار إلى المستوى العالمي، وربما أكثر. ويعتبر أن "حكومة الأسد حالياً عادت لما بدأه النظام مطلع الألفية، وقت نهجت سورية اقتصاد السوق الاجتماعي ورفعت أسعار الطاقة، وبدأنا نسمع عبارة توزيع الدعم على مستحقيه، ولكن وفق آلية جديدة وسريعة، فتقليص حجم الدعم ومن ثم رفع الأسعار هي دلائل على السير سريعاً باتجاه اقتصاد السوق المفتوح".
ولم يستبعد الاقتصادي السوري أن نرى قريباً تحريراً كاملاً للتجارة ولسعر الصرف الليرة السورية، أي تعويمها، ومن ثم خصخصة القطاع الحكومي وبيعه للشركاء، في طهران وموسكو.
وبعد سحب الدعم، يكون نظام الأسد قد نفذ معظم شروط البنك وصندوق النقد الدوليين، لتبدأ توجيه الاستثمارات إلى قطاعات محددة وقلما تعود بالنفع على المستهلك، ضمن ما جرت عليه عادة وشروط المؤسسات الدولية، حسب جميل.
أمنيات الاعتراف الدولي
وفي المقابل، استبعد الاقتصادي السوري، عماد الدين المصبح، أن تكون تلك الخطوات بناء على طلبات من المؤسسات الدولية، ومنها صندوق النقد أو البنك الدوليان، لأن الاقتصاد السوري "متهالك ولا قرار لقيادته"، وهذه مسائل تلحظها المؤسسات الدولية، بحسب قوله، إذ تحول النظام إلى اقتصاد السوق أو تقليص القطاع الحكومي وتحرير التجارة والعملة ووقف برامج الدعم والتدخل للحد من أزمته المالية الخانقة.
وأضاف المصبح لـ"العربي الجديد" أن نظام الأسد "يتمنّى أن تسعفه تلك المؤسسات بقروض أو شروط ووصفات، لأنه يحقق مكسبين بنفس الوقت، الأول استعادة الشرعية المفقودة والخروج من طوق الحصار والعقوبات، والأمر الآخر يحصل على مبالغ مالية تساعده بالاستمرار، لأن خزينة الدولة السورية خاوية بكل معنى الكلمة، بعد تراجع الموارد "نفط، ضرائب وفوائض القطاع الحكومي". وأشار إلى أن الأمر الذي فاقم معاناة النظام اقتصادياً هو أن شركاء الأسد توقفوا عن دعمه مالياً بشكل مباشر، مضيفاً: "نرى أن أهم موارد الأسد اليوم هي المخدرات والإتاوات على الشعب والصناعيين والتجار".
ويشير المصبح إلى أن إجراءات حكومة الأسد اليوم تزيد من نقمة الشارع بعد تجويعه وتفقيره، فبدلاً من وقف الهدر ومكافحة الفساد، تمدّ حكومة النظام اليد لجيوب رجال الأعمال ولقمة السوريين. كذلك يستغرب من طريقة اعتماد سحب الدعم، لأن بلاده تفتقر لقواعد بيانات دقيقة كما أن الشرائح المستبعدة تمت وفق المهنة والملكية، وليس وفق الدخل.
ويختم الاقتصادي السوري بأنه وفق بند الدعم الاجتماعي بموازنة العام المقبل البالغ 5529 مليار ليرة (الدولار = نحو 3500 ليرة)، يمكن بوضوح ملاحظة سحب الدعم، خاصة في ما يتعلق بالمواد التموينية، كما أن المشتقات النفطية التي استحوذت على الكتلة الكبرى من الدعم (حوالى 48.8%) لم نر أي دعم لها، بل ارتفع سعر المازوت خمس مرات خلال الفترة السابقة ولا تستطيع الدولة تأمين المشتقات النفطية حتى بالسعر الجديد.
ويتقاطع كلام الخبير المالي إبراهيم محمد مع رأي المصبح بأن "نظام الأسد اليوم أبعد ما يكون عن الحصول على قروض أو رعاية من صندوق النقد أو البنك الدوليين، فتلك المؤسسات، وصندوق النقد خاصة، تقدم مساعدات لمن ينفذ سياسات تصحيحية منظمة للانتقال إلى اقتصاد مستقر أو تفادياً لحدوث أزمات أو تحريك قطاع كالصادرات مثلاً، هذا إن لم نأت على شروط داخلية كضمان رسملة المصارف وتقديم بيانات مضبوطة".
وبحسب محمد لـ"العربي الجديد"، فإن البنك الدولي لديه شروط، عدا التحول الاقتصادي وتعويم العملة، فإن كان هدف القرض ربحياً، نرى التركيز على نسبة فائدة مرتفعة وفترة سداد متوسطة، كما تعقّدت شروط الاقتراض ووصلت لدرجة التدخل والرقابة على الإنتاج الصادرات والبرامج التنموية.
يعني ذلك، وفق تصريح الخبير المالي السوري لـ"العربي الجديد"، أن الاقتصاد السوري لا يحقق أي إغراء أو بيئة مناسبة للمؤسسات الدولية لتقرضه أو حتى تتدخل بتحوله، وما سياسات حكومة الأسد اليوم سوى الانسحاب من الالتزامات تجاه الشعب، بسبب الإفلاس بذريعة توزيع الدعم لمستحقيه.
التعويم الاقتصادي عربياً
وكان النظام السوي قد اتجه إلى العديد من الشراكات الاقتصادية مع دول عربية بهدف تجاوز العقوبات الأميركية والدولية المفروضة عليه. وافتتح الجانبان قبل أيام، الأردني ونظام بشار الأسد، منطقة حرة مشتركة على حدودهما، في خطوة وصفها مراقبون بأنها تأتي في إطار تعويم للنظام السوري. ويأتي ذلك بعد إعادة فتح مركز جابر، على الحدود الأردنية - السورية في سبتمبر/ أيلول الماضي، وعودة الترانزيت والتجارة بين عمّان ودمشق. وأعلنت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية بحكومة الأسد ووزارة الصناعة والتجارة والتموين الأردنية إعادة افتتاح المنطقة الحرة، الأربعاء الماضي، والتي تهدف إلى تنشيط الحركة التجارية وجذب الاستثمارات وتفعيل قطاع الخدمات، فضلاً عن خلق فرص العمل والمساهمة في تحقيق دعم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية لكلا البلدين.
ومن المشروعات المهمة التي تستهدف تعويم النظام السوري عبر بوابة الاقتصاد، تصدير الغاز المصري مروراً بالأراضي السورية والأردنية إلى لبنان.
وكان وزراء الطاقة في الأردن ومصر وسورية ولبنان قد اتفقوا في اجتماع بالعاصمة الأردنية عمّان، في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، على خريطة طريق لنقل الغاز المصري براً إلى لبنان الغارق في أسوأ أزماته الاقتصادية، بعد التأكد من جهوزية البنى التحتية. وقال وزير البترول المصري طارق الملا يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إن مصر تتوقع بدء تصدير ما بين 60 مليوناً و65 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً إلى لبنان بحلول أوائل العام المقبل.
وقال الملا على هامش مؤتمر للنفط والغاز بأبوظبي إن "مصر ستصدر الغاز بما يتماشى مع الكمية التي طلبها لبنان بأسرع ما يمكن"، مضيفاً أنه "يمكن توقعها في نهاية العام أو مطلع العام المقبل". وتأتي هذه العملية بموجب خطة تدعمها الولايات المتحدة الأميركية للمساعدة في تخفيف أزمة الكهرباء في لبنان. وفي نفس سياق توسيع النظام لعلاقاته الاقتصادية عربياً، اتجه نحو الإمارات لتعزيز التعاون معها.
وكانت وزارة الاقتصاد الإماراتية قد قالت مؤخراً إن الإمارات وسورية اتفقتا على خطط لتعزيز التعاون الاقتصادي واستكشاف قطاعات جديدة. وتعد الإمارات أهم الشركاء التجاريين لسورية، إذ تحتل المرتبة الأولى عربياً والثالثة عالمياً، وتستحوذ على ما يتجاوز 14% من تجارة سورية الخارجية، حسب بيانات رسمية.