عاد الملف السوري اللبناني البحري الشمالي إلى الواجهة من جديد من بوابة الترسيم الجنوبي بين لبنان وإسرائيل، الذي ما إن أعلِنت الموافقة الرسمية بشأنه، حتى كشف الرئيس اللبناني ميشال عون أن الخطوة التالية ستكون بالتوجه إلى عقد محادثات مع سورية لحلّ المنطقة المتنازع عليها معها، وهي تزيد عن 900 كيلومتر مربع، مع ضرورة مراجعة الحدود المرسومة مع قبرص.
وعلى الرغم من إشارة أوساط سياسية واقتصادية إلى أن المحادثات مع سورية مفترض أن تكون أسهل باعتبارها تقام مباشرة بين دولتين، ونظراً لعلاقة عون ومن خلفه "حزب الله" مع النظام السوري، بيد أن الملف دخل دائرة التجاذبات مبكراً، بحيث أرجئت زيارة الوفد اللبناني، التي كانت مقرّرة إلى دمشق اليوم الأربعاء، لـ"ارتباطات سورية مسبقة"، ونتيجة "التباس بالتنسيق من الجانب اللبناني".
ارتدادات اقتصادية إيجابية
بمعزل عن أسباب التأجيل والتعقيدات السياسية التي يدخل بها الملف، فإن لبنان يتطلع إلى إنجازه لارتداداته الإيجابية عليه اقتصادياً، ومستقبلاً، في المجال النفطي الغازي، خصوصاً لانعكاسه على استقطاب الشركات الأجنبية لغرض التنقيب والاستكشاف.
يشرح الرئيس السابق للوفد اللبناني المفاوض على الحدود البحرية اللواء عبد الرحمن شحيتلي، لـ"العربي الجديد"، بداية، أن "لبنان وقع اتفاقاً عام 2007 مع قبرص لترسيم الحدود البحرية بينهما، على أن يبدأ خط الحدود من النقطة 1 ويتجه شمالاً، بيد أن هذه النقطة مؤقتة وتصبح قابلة للبحث عند دخول طرف ثالث المحادثات، وبما أن الترسيم حصل بين لبنان والعدو الإسرائيلي، فقد بات واجباً تعديل الاتفاق، والبدء مع قبرص من النقطة 23 بدلاً من 1، كذلك تعديل نقطة النهاية من ناحية الشمال مع سورية باعتماد النقطة رقم 7 بدلاً من 6".
وفي وقتٍ يعتبر شحيتلي أنه لا خلاف مع قبرص ويمكن الاتفاق من خلال المحادثات التي ستجرى، يشير إلى أن المشكلة بين لبنان وسورية تكمن في أن الجانب اللبناني أعلن حدوده مع قبرص وبشكل أحادي من دون أن يجري محادثات مع الطرف السوري، الذي بدوره تقدم بشكوى اعتراضية عام 2014 إلى الأمم المتحدة، مبدياً عدم اعترافه بالترسيم الذي أجراه لبنان.
ويلفت شحيتلي إلى أن الفائدة الاقتصادية الأبرز ستكون، في حال إتمام الاتفاق، إزالة جميع العوائق، واتجاه الشركات للاستثمار والبدء في عمليات التنقيب بالبلوكات اللبنانية.
من جهته، يقول الخبير النفطي ربيع ياغي لـ"العربي الجديد" إن "ما يحصل اليوم ليس ترسيماً للحدود، بل تصحيح خطأ وقع فيه المفاوض اللبناني عام 2007، عندما رسّم خط الفصل البحري بين لبنان وقبرص، وتم التراجع جنوباً من الخط 23 إلى 1، وشمالاً من النقطة 7 إلى 6، ما خلق مناطق عازلة، أي "بافر زون"، حيث إن الخط الإسرائيلي تمدد بالنقطة رقم 1، فعانى لبنان كثيراً لحين حصول الاتفاق أخيراً على الخط 23".
ويوضح ياغي أنه "كما تمكنا من التوصل إلى حلّ أو تصحيح الخطأ مع العدو واستعادة 860 كلم2، يمكننا الوصول إلى نتيجة ذاتها مع السوريين، لا بل ستكون الأمور أسهل بشرط أن تكون الخطوة الأولى في تعديل مسألة نقطتي البداية والنهاية بين لبنان وقبرص، لننتقل إلى المرحلة الثالثة والتفاوض مع السوريين بهدف ترسيم الحدود الشمالية بين المنطقتين الخالصتين لكل بلد".
ويلفت الخبير النفطي إلى أن أول استفادة للبنان اقتصادياً ستكون باستقطاب الشركات الأجنبية لممارسة الأنشطة البترولية في لبنان، وذلك بمجرد أن تجد استقراراً جيو سياسياً وجغرافياً وتصبح البلوكات خالية من أي نزاع، فالمستثمر وصاحب المال جبان بالعادة، ويفتش عن الأمان والاستقرار والوضوح في الحدود للقيام بأنشطته باندفاع.
من ناحية ثانية، يشير ياغي إلى أن لبنان ليس بلداً نفطياً أو غازياً ولا يمكن التكهّن قبل بدء الحفر، لكن هناك دراسات موثقة تبعاً لمسح جيولوجي أجري بشكل ثنائي وثلاثي الأبعاد يظهر مناطق واعدة ومكامن غازية بترولية فيها شمالاً وجنوباً، لكن لمعرفة الكميات وما إذا كانت تجارية وقابلة للاستخراج وذات جدوى اقتصادية واضحة وواعدة، يجب انتظار عمليات الحفر.
التنقيب عن النفط
من جهته، يقول الخبير النفطي المهندس عبود زهر، لـ"العربي الجديد"، إن "لبنان أصدر عام 2011 المرسوم رقم 6433 صحح فيه النقطة الحدودية ليثبت الرقم 7 بدلاً من 6، وأبلغ به الأمم المتحدة، بيد أن سورية لم تعترف بالترسيم الأحادي واعترضت عام 2014، عند المرجع نفسه، معلنة استنادها فقط إلى القانون السوري في طريقة الترسيم، الأمر الذي أدى إلى وجود مساحة متداخلة بين البلدين بين 750 و1000 كلم2".
ويلفت زهر إلى أن "سورية وقعت عقداً قبل أكثر من عام مع شركة كابيتال الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 1، الواقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لسورية، والذي يمتد حتى الحدود البحرية السورية اللبنانية بمساحة تصل إلى 2250 كلم2.
وبحسب الإحداثيات، هناك تداخل كبير مع البلوكين 1 و2 من الجانب اللبناني بما يقارب 750 كلم2 داخل حدود لبنان البحرية، وللأسف، لبنان لم يعترض ودخل في ما يشبه الموت السريري كما كل الملفات التي يتعاطى معها بقلة مسؤولية ومن دون خبرة، علماً أن سورية، رغم الحرب، قدمت اعتراضها عام 2014 على الترسيم اللبناني".
في المقابل، يشير زهر إلى أن "العمل في البلوك السوري شبه متوقف، والمؤشرات غير إيجابية على صعيد التنقيب في سورية، نظراً إلى الحصار والعقوبات المتزايدة على الشركات الروسية، ما يحول دون الاستفادة من الخبرات الأجنبية أو حتى التحويلات بالدولار أو اليورو وما إلى ذلك، عدا عن أن الشركة التي جرى التعاقد معها ضعيفة ولا تملك أي خبرة وافية للتنقيب في المياه العميقة".
بلوكات خالية من النزاع
ويرى زهر أن التفاوض يمكن أن يكون أسهل وأسرع مع الجانب السوري باعتبار أنه سيكون مباشراً، بعكس الذي حصل مع العدو، ولكن لا ينظر بإيجابية إلى إرجاء زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، خصوصاً أنه لم يحدد موعداً بديلاً.
ويردف زهر أنه بمجرد الترسيم، تصبح البلوكات اللبنانية نظيفة، أي خالية من أي نزاع، ما يفتح الباب أمام الشركات للتنقيب، بعدما تكون المخاطر قد تقلّصت، الأمر الذي ينعكس ايجاباً على الأسعار التي تقدم أيضاً، حيث إن شركة توتال الفرنسية، مثلاً، أعطت جنوباً سعراً للبلوك رقم 9 أقل من الذي قدمته للبلوك رقم 4، نظراً للنزاع الذي كان حاصلاً وأن البلوك 9 متنازع عليه، من هنا، إذا أراد المستثمر القيام بأنشطة بترولية في البلوكين رقم 1 و2 شمالاً، يمكنه ذلك لا بل يتشجع على ممارسة هذه الأعمال ويقدم أسعاراً أفضل.
على صعيد متصل، قال زهر إن لبنان طلب تأجيل الزيارة التي كانت مقررة لوفد قبرصي مطلع الأسبوع الجاري إلى وقتٍ لاحق، على اعتبار أن هناك زيارة للوفد اللبناني إلى دمشق، كما أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل سيوقع الخميس في الناقورة جنوباً، بحضور الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، معتبراً أن المفاوضات مع القبرصيين لن تكون صعبةـ بل على العكس، وذلك بعد حل النقطة الثلاثية بين قبرص ولبنان وإسرائيل".
وكان تقرير صادر عن مجلة الجيش اللبناني قال إنه "بتاريخ 17/12/2010، وقع العدو اتفاقية لتعيين حدود منطقته الاقتصادية الخالصة مع قبرص، وذلك من دون أن تتشاور قبرص مع لبنان بهذا الخصوص، كما نصت على ذلك الاتفاقية الموقعة بين الجانبين في العام 2007.
وبدلاً من أن ينطلقا بهذه الحدود من النقطة 23، انطلقا من النقطة 1 التي كان متفقاً مع قبرص على أنها نقطة مؤقتة، ثم قام العدو بترسيم حدوده البحرية مع لبنان من جانب واحد، فانطلق من نقطة سميت النقطة 31 في رأس الناقورة إلى النقطة 1، وهكذا كان الخط الإسرائيلي الذي سمي بالخط 1، ووقتها اعترض لبنان على الترسيم الإسرائيلي بموجب رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة".
العقبة الروسية
رغم الآمال المتعلقة بفتح ملف ترسيم الحدود بين بيروت ودمشق، رضخت سورية للرغبة الروسية بتأجيل استقبال الوفد اللبناني الذي كان من المفترض أن يبدأ بملف ترسيم الحدود اليوم الأربعاء.
و"لكن جاءت رغبة موسكو لتؤجل اللقاء"، حسب ما يكشف مسؤول رفيع من دمشق، "ريثما يتم توقيع بيروت على الاتفاق مع إسرائيل" المتوقع غداً الخميس، والبت بقبول لبنان التراجع من الخط 29 إلى الخط 23، لأن ذلك سيؤثر، بحسب المصدر، على مفاوضات الترسيم بين لبنان وسورية، لناحية انطلاق خط الترسيم اللبناني من نقطة وسط النهر الكبير، والاتجاه بخط أفقي نحو عمق المياه الإقليمية وما بعدها.
ويضيف المسؤول السوري، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن "دمشق تنّكرت أمس لوجود اتفاق على موعد للترسيم أصلاً". ويقول: "اعتبرت دمشق أن زيارة الوفد التي ألغيت، جاءت بتوقيت غير مناسب لدمشق، نظراً لوجود ارتباطات".
وإجابة عن سؤال هل يوجد تنسيق بين نظام الأسد وحزب الله اللبناني؟ يؤكد المصدر: "أكيد، ومن المستحيل ترسيم الحدود البحرية بين سورية ولبنان، خلال الفترة المقبلة، لأن هناك خلافا على مساحات كبيرة تبلغ نحو 750 كيلومتراً مربعاً".
وكانت وزارة النفط بحكومة بشار الأسد وشركة "كابيتال ليمتيد" الروسية قد وقعتا، في مارس/آذار العام الماضي، اتفاقا للتنقيب في البلوك البحري 1 مقابل ساحل محافظة طرطوس السورية حتى الحدود البحرية الجنوبية مع لبنان، بمساحة 2250 كيلومتراً مربعاً.
وحسب العقد الحصري بالبلوك الأول للشركة الروسية، فإن "لشركة كابيتال الحق الحصري في التنقيب وتنمية المنطقة موضع العقد"، وإن مدة العقد تقسم إلى مرحلتين.
الأولى للاستكشاف ومدتها أربع سنوات، تبدأ منذ توقيع العقد ويمكن تمديدها ثلاث سنوات إضافية، لتكون مدة المرحلة الثانية 25 عاماً، أيضاً قابلة للتمديد مدة خمس سنوات.
وحول النسب بين سورية والشركة الروسية، يقول الخبير النفطي السوري، عبد القادر عبد الحميد، أنها لم تحدد بعد أو لم يتم الإعلان عنها رسمياً، وربما تحدد بعد تأكيد اتفاقات الاسكتشاف وحجم الإنتاج، نفطيا كان أم غازيا، مشيراً إلى أن نظام الأسد سبق أن وقع، العام الماضي أيضاً، عقداً مع شركة "إيست ميد عمريت" الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 2، الممتد من شمال طرطوس إلى جنوب بانياس بمساحة 2190 كيلومتراً مربعاً.
وحول الكميات المتوقعة من الغاز في المياه الإقليمية السورية، يقول عبد الحميد لـ"العربي الجديد" إنه لا يوجد أي رقم مؤكد علمياً، ولكن هناك العديد من الأرقام، منها منسوب إلى مركز "فيريل الألماني" عام 2017 يقول إن سورية ستكون ضمن الدول الأكثر إنتاجاً للغاز عالمياً نظراً لما تحتويه مياهها الإقليمية وحتى البر، وثمة احتياطي غاز بنحو 28 تريليون متر مكعب.
ويوجد تصريح لوزير النفط السابق علي غانم، خلال مقابلة لمحطة روسيا اليوم في 2018، يقول خلاله إن الاحتياطيات بالبلوكات البحرية كبيرة، ما يعادل 250 مليار متر مكعب من الغاز، ولكن يضيف عبد الحميد: لا يوجد أي معطى مسحي أو استكشافي يدلل على حجم الغاز بالمياه الاقليمية السورية، وكل ما لدينا عمليات المسح السيزمي الذي شمل 5000 كم طولي، غطت مساحة عشرة آلاف كيلومتر مربع، قامت به شركة INSEIS النرويجية، باتفاق مع الشركة السورية للنفط الحكومية عام 2005، وقامت بتحليل المسح شركة "ساجيكس" النرويجية.
ويتابع عبد الحميد: لو أن ثمة احتياطي غاز مشجعاً لتقدمت الشركات العالمية للاستكشاف والاستخراج، علماً أن سورية طرحت عام 2007 أربعة قطاعات "بلوكات" للاستثمار، ولم تتقدم أي شركة عالمية، كما أعيد في مارس/ آذار 2011 طرح المناقصة العالمية لاستكشاف موارد النفط والغاز بالبلوكات نفسها "على مساحة 7750 كيلومتراً مربعاً" ولم يتقدم أحد.
ونسب وزير النفط وقتذاك، سفيان علاو، سبب عدم تقدم شركات عالمية الأحداث "كان مطلع الثورة السورية"، لتعاد المناقصة في أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، وأيضا لم تتقدم أي شركة عالمية.
رغم الآمال المتعلقة بفتح ملف ترسيم الحدود بين بيروت ودمشق، رضخت سورية للرغبة الروسية بتأجيل استقبال الوفد اللبناني
من جهته، يقول وزير النفط بحكومة الأسد بسام طعمة إن منطقة شرق المتوسط غنية باحتياطيات النفط والغاز، وخاصة الغاز، "وقد سبقتنا دول عديدة في مجال التنقيب في هذه المناطق، لكن العقوبات الأميركية تعيق أية عمليات تنقيب في المياه السورية".
ويضيف طعمة، خلال منتدى "أسبوع الطاقة الروسي" الذي استضافته موسكو الشهر الجاري، إن أية شركة تحاول سورية التعاقد معها من أجل إجراء المسح تُهدد بالعقوبات، وبالتالي، فإن موضع الاستكشاف في البحر المتوسط مرهون بإيجاد بدائل للتكنولوجيا الغربية المحظورة على دمشق.
وتعاني سورية من نقص حاد بالنفط والغاز، خاصة بعد تراجع سيطرتها على الحقول ومنابع الطاقة شمال شرقي سورية، والتي تسيطر عليها ما تسمى قوات سورية الديمقراطية "قسد"، وأهمها معامل إنتاج الغاز "كونكور، سويدية، ومعمل غاز عمر"، وخروج مناطق الإنتاج عن سيطرة النظام، إذ لا يزيد إنتاج الغاز الطبيعي في سورية سنوياً، بحسب بيانات وزارة النفط والثروة المعدنية، عن 4.5 مليارات متر مكعب.
ويرى رئيس تجمع المحامين السوريين، غزوان قرنفل، أن لبنان على ما يبدو، بعد دخول واشنطن والتوفيق لجهة الاتفاق مع إسرائيل، رفض وساطة ممثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الملف السوري ألكسندر لافرانتياف، الذي عرض المساعدة الروسية لحل الخلاف التقني بين لبنان وسورية، الأمر الذي دفع نظام الأسد لإلغاء موعد بدء مباحثات الترسيم.
ويضيف قرنفل لـ"العربي الجديد" أن الترسيم في المياه بين الدول لا بد أن ينطلق من الحدود البرية، وهي محددة منذ عام 1920، وقت تجرى إعلان لبنان الكبير، ولكن نظام الأسد لم يقبل بالترسيم وفق البر ولا وفق المرسوم" 6433" لعام 2011 الذي أعلن خلاله لبنان حدوده البحرية.
وحول إمكانية حل الخلاف وتداخل الحدود البحرية بين لبنان سورية، يشير رئيس تجمع المحامين السوريين إلى أن البلدين تربطهما علاقات جيدة ولا حاجة لوسيط كما بالحالة الإسرائيلية أو للشكاية وتدخل هيئات دولية، بل يمكن البدء بالتفاوض بشكل مباشر كما كان متوقعاً، للبحث بالمسائل التقنية والقانونية والقياس على سوابق مشابهة، وفي حال التعطيل أو عدم الامتثال، فوقتها يمكن اللجوء إلى الأمم المتحدة أو الشكاية إلى نظام التحكيم الدولي.