قبل أقل من ثلاثة أشهر، شنت الحكومة المصرية حرباً مفتعلة ضد التجار، تساندها حملات دعائية في وسائل الإعلام الموالية، بدعوى ضبط الأسعار وتوفير السلع الأساسية، التي تضررت من الحرب الروسية في أوكرانيا، إلا أن الأسعار لم تتوقف عن الصعود، لاسيما مع الخفض الحاد الأخير لقيمة الجنيه أمام الدولار، ما زاد من حدة السخط الشعبي من الغلاء.
ومع استمرار أسعار السلع في السوق العالمية في الصعود، ومواجهة الدولة مأزقاً في توفير النقد الأجنبي اللازم للاستيراد، اتجهت الحكومة هذه المرة لتوجه الاتهامات إلى المزارعين بالتسبب في نقص المعروض من السلع الأساسية، لاسيما القمح والأرز، مهددة بإجراءات لمصادرة المحاصيل وسجن الفلاحين.
حظر تداول القمح حتى آخر أغسطس
وفي اجتماع حكومي يوم الثلاثاء الماضي، قال رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، إنه يجري "التعامل بكل حسم مع عمليات احتفاظ المواطنين بالقمح في منازلهم والامتناع عن توريده (للحكومة)"، مضيفا: "أصدرنا قراراً بمنع تداول القمح حتى آخر أغسطس/آب، وأي محاولة لتوريد القمح بشكل غير قانوني ستتم مصادرته".
وتابع مدبولي أن كل محافظ مسؤول عن توريد الكميات المستهدفة من القمح والمعلن عنها من محافظته، مطالبا المحافظين بالتواصل معه مباشرة، من دون وسيط، والتحدث إليه عن التحديات التي قد تواجه عملية التوريد. ويوم الإثنين الماضي، أعلن وزير التموين علي المصيلحي، أنه تم توريد 3.3 ملايين طن من القمح المحلي منذ بدء موسم الحصاد الحالي، بينما تستهدف الحكومة شراء 5 ملايين طن، فيما يستلزم برنامج الدعم الغذائي توفّر حوالي 9 ملايين طن سنوياً.
وتحصل مصر على معظم إمداداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، بينما تسببت الحرب بين البلدين في تقلّص الإمدادات وارتفاع تكاليفها. واستوردت الحكومة 4.7 ملايين طن في العام الماضي، معظمها من البلدين المتحاربين، في حين اشترت نحو 1.9 مليون طن من الخارج للشحن في عام 2022.
ولا تبدو التوجهات الحكومية للحصول على أكبر قدر من محصول القمح المحلي، بعيدة عن الأرز أيضاً، إذ صدر قرار وزاري، مطلع الأسبوع الجاري، بتشكيل لجان أمنية، تضم مسؤولي وزارة التموين ومديري الزراعة والمباحث العامة في المحافظات، لحصر أماكن زراعة الأرز، تمهيدا لمنع المزارعين من التصرف في المحصول، مع بداية موسم الحصاد المقبل.
وتشهد أسعار الأرز ارتفاعاً مستمراً في الأسواق، إذ تسجل زيادات يومية، فيما يخشى المصريون المزيد من الغلاء لهذه السلعة، كونها الوجبة الأكثر شعبية، خاصة في المحافظات الشمالية للبلاد.
ومع توجه الحكومة لتخفيض أعداد الأفراد المستفيدين من الحصول على الرغيف المدعوم، وتضاعف أسعار الخبز والمعجنات، خلال الشهرين الماضيين، لجأ المستهلكون إلى الأرز، بينما رفع التجار أسعاره بشكل لافت، لارتفاع تكاليف أسعار النقل وتهاوي الجنيه أمام الدولار، في حين تضاربت التصريحات الحكومية حول مستويات الأسعار.
ووصل سعر الكيلوغرام من الأرز البلدي السائب الأبيض إلى 18 جنيها (0.97 دولار)، والدرجة الثانية 17 جنيها، بينما يصل المعبأ منه إلى 20 جنيها للكيلو. فيما يتوقع تجار، استمرار الأسعار في الارتفاع، ليصل سعر الكيلوغرام إلى نحو 25 جنيها، نهاية أغسطس/آب المقبل، بزيادة 60% عن سعره في إبريل/نيسان الماضي، وقبل بداية موسم جني المحصول الجديد، منتصف سبتمبر/أيلول.
خطط الحكومة في مواجهة الأزمة
حالة ارتباك الأسواق انتقلت إلى مناقشة عامة داخل مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية من البرلمان)، مطلع الأسبوع الحالي، حيث استدعى المجلس وزير التموين علي المصيلحي، لمعرفة خطط الحكومة في مواجهة تلك الأزمة المتصاعدة، في وقت تتزايد فيه أزمة المواد الغذائية الرئيسية كرغيف الخبز والزيوت وتكاليف المنتجات الزراعية.
لكن وزير التموين أشار إلى عدم وجود أزمة أغذية، قائلا إن "الأرز في قبضة الحكومة"، مؤكدا أنه لن يسمح بزيادة سعره في الأسواق عن 13 جنيهاً للكيلوغرام، كحد أقصى، للفئة الأولى، ينخفض إلى 12 و11 جنيها للأقل جودة.
وتعهد الوزير أمام مجلس الشيوخ، مساء الأحد الماضي، بأنه في حالة زيادة السعر عن 13 جنيها للكيلوغرام سيكون هناك تدخل جبري من الحكومة، لعرضه أمام الجمهور بأسعار معقولة.
وذكر في كلمته المطولة، أن سعر طن الأرز الشعير، بلغ نحو 5 آلاف جنيه للطن، نهاية العام الماضي، بينما يبلغ حاليا نحو 9 آلاف جنيه، بما يتطلب بيع أفضل الأنواع بسعر 10 جنيهات للكيلوغرام، وفي حالة مخالفة التسعيرة، ستتدخل الدولة، باستلام الأرز من المزارعين إجباريا مثل القمح.
لكن حديث الوزير عن مستويات الأسعار تضارب كثيراً مع تصريحات نائبه إبراهيم العشماوي، رئيس جهاز التجارة الداخلية، التي تزامنت مع كلمة المصيلحي أمام مجلس الشيوخ. إذ أكد العشماوي في تصريحات متلفزة، أن طن الأرز يتراوح سعره بين 14500 جنيه و17500 جنيه، ويصل للمستهلك بسعر ما بين 13 و17 جنيهاً للكيلوغرام.
وتشير إحصاءات هيئة السلع التموينية الحكومية، إلى أن مصر استوردت خلال العام المالي 2021/2022، نحو 223 ألف طن من الأزر طويل الحبة "بسمتي" ومن الأرز قصير الحبة "الياسمين" من الصين والهند وتايلاند.
ارتفاع الاستهلاك المحلي
وتتوقع الهيئة المسؤولة عن استيراد المحاصيل الاستراتيجية للدولة، ارتفاع الاستهلاك المحلي من الأزر إلى نحو 3.8 ملايين طن العام المقبل، رغم تراجع نصيب الفرد من الأرز بنسبة 10.6%، مع ارتفاع الأسعار، وعدم توزيعه على بطاقات التموين لنحو 70 مليون مواطن، ومنحهم بدائل أخرى، مثل المكرونة التي تنتجها مصانع القوات المسلحة وشركات القطاع العام.
وكانت لافتة تصريحات رئيس وزراء تايلاند، برايوث تشان أوشا، بداية الأسبوع الحالي، بطلبه من دولة فيتنام التنسيق مع دولته، لرفع أسعار الأرز و"تعزيز قدرتيهما على المساومة على رفع الأسعار في السوق العالمية"، كمؤثر جديد، لدفع الأسعار إلى أعلى.
وواكبت تحالف تايلاند وفيتنام، مؤشرات عن تراجع زراعة الأرز في الصين، متأثرة بوضع نحو 200 مليون نسمة تحت حظر التجول، مع انتشار وباء كورونا في المناطق الجنوبية والشرقية، المنتجة والأكثر استهلاكاً للأرز، بما يؤكد تناقصاً في الإنتاجية، مع زيادة الاستهلاك، وعدم قدرة الصين على تصدير أية كميات لمصر، متأثرة باستمرار الوباء وارتفاع أسعار الشحن التي زادت بنحو 5 أضعافها خلال الأشهر الأخيرة.
قيود هندية على صادرات الأرز
وزاد الأمر سوءًا، خلال اليومين الماضيين، مع وضع الهند قيوداً على تصدير "الأرز البسمتي"، قد تصل إلى الحظر التام، بينما شهد الطلب عليه في مصر طفرة خلال السنوات الأخيرة، مع انتشار الوجبات العربية واستخدامه في صناعة النشا والمعجنات.
ودفعت حالة عدم اليقين هذه، المستوردين والتجار والوسطاء في مصر، إلى رفع أسعار الأرز في الأسواق.
وتتوقع هيئة السلع التموينية، انخفاض مخزون الأرز عام 2022/ 2023 إلى 540 ألف طن، مقابل 845 ألف طن في موسم 2021/2022.