في نهاية شهر فبراير الماضي، انقضت المهلة التي منحها مصرف لبنان المركزي للمصارف اللبنانيّة لإتمام الشق الثاني من مسار إعادة الرسملة، والمتعلّق بتكوين سيولة في المصارف المراسلة الأجنبيّة بنسبة 3% من إجمالي الودائع الموجودة لدى كل مصرف بالعملات الأجنبيّة. مع العلم أن مهلة الشق الأوّل من مسار إعادة الرسملة، المتعلّق بزيادة رساميل المصارف بنسبة 20% انقضى في نهاية السنة الماضية، وفقاً لتعاميم المصرف المركزي.
هذا المسار بشقيه، جرى الترويج له بوصفه خشبة خلاص القطاع المصرفي اللبناني بعد مرور الاقتصاد بإحدى أكبر النكبات المصرفيّة التي شهدها التاريخ الحديث، إلى حد حديث حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، عن عودة تدريجيّة للانتظام في القطاع المصرفي ابتداءً من شهر آذار/مارس الحالي، أي بعد نهاية جميع المهل المتعلّقة بهذا المسار.
لكنّ مراجعة تفاصيل الإجراءات والخطوات التي جرت طوال الفترة الماضية تكفي لنكتشف أن الكثير مما جرى الحديث عنه كإنجازات على طريق الخروج من الأزمة لم يكن سوى عمليات محاسبيّة شكليّة لم تنفع إلا بنفخ الرساميل المصرفيّة شكليّاً، ودون ضخ أي الرساميل جديدة إلى القطاع.
أما من ناحية تكوين السيولة في المصارف المراسلة، فيبدو أن ثمّة ما يخيف المودعين في هذه الإجراءات أكثر مما يطمئنهم، وتحديداً في ظل غياب أي قانون لتنظيم إجراءات ضبط السيولة في القطاع المصرفي، وحماية ما تبقى من موجودات فيه.
فعمليات زيادة الرساميل جرت بسهولة فائقة، رغم أن حالة القطاع المصرفي الحاليّة لا توحي بإمكانيّة استقطاب أي استثمارات جديدة. لكنّ مراجعة هذه العمليات بالتحديد تظهر أن المصارف استفادت من جميع التسهيلات التي أعلن عنها مصرف لبنان خلال الأشهر الماضية، والتي سمحت بإعادة تخمين العقارات المملوكة من المصارف والمستعملة في عملياتها التشغيليّة، وبتخصيص جزء من الزيادة في قيمة العقارات لنفخ الرساميل.
لا، بل ذهب المصرف المركزي أبعد من ذلك، من خلال سماحه بإعادة تخمين محفظة العقارات الضخمة المملوكة من المصارف استيفاءً للقروض المتعثّرة، وزيادة التحسّن في قيمة العقارات إلى قيمة الرساميل المصرفيّة.
يبدو أن ثمّة ما يخيف المودعين في هذه الإجراءات أكثر مما يطمئنهم، وتحديداً في ظل غياب أي قانون لتنظيم إجراءات ضبط السيولة في القطاع المصرفي
كل هذه الإجراءات، سمحت بتضخيم الرساميل المصرفيّة، دون ضخ أي سيولة فعليّة يمكن أن تقدّم أو تؤخّر على مستوى ملاءة المصارف أو قدرتها على معالجة أزمة المودعين فيها.
أما الجزء الآخر من الرساميل التي تمّت زيادتها، فكانت على شكل تقديمات عقاريّة من قبل المساهمين، أو من خلال تحويل ودائع عالقة في النظام المصرفي المتعثّر إلى أسهم، وهي عمليات لم تؤد في الحالتين إلى ضخ أي أموال أو موجودات قابلة للتسييل في الظروف الحاليّة.
مع العلم أن الكثير من العقارات التي جرى تقديمها في إطار هذه العمليّات لم تكن سوى عقارات مملوكة أساساً من قبل المجموعات المصرفيّة نفسها، ومسجلة باسم شركات عقاريّة تابعة، ما يعزز الاعتقاد بعدم وجود أثر جدّي لهذه العمليات على مستوى الميزانيات وملاءتها.
من ناحية عمليّة تكوين السيولة لدى المصارف المراسلة، أي الشق الثاني من عمليّة إعادة الرسملة، فجرى تأمين غالبيّة هذه السيولة، وتحديداً تلك التي تخص المصارف الكبرى التي تتركّز فيها الودائع، من خلال بيع فروع المصارف الأجنبيّة.
هذا النوع من العمليات لم يؤدّ فعليّاً إلى زيادة الملاءة في القطاع، لكون المصارف لم تستقدم أي رساميل جديدة من خارجها، كما لن يساهم حجم السيولة هذا -الضئيل جدّاً قياساً بحجم الودائع- بحل أزمة المودعين.
أمّا ما يخشاه أصحاب الودائع اليوم، فهو تحديداً عمليّة تحويل ما تبقى من ملاءة أو موجودات ثابتة في الخارج إلى سيولة صغيرة الحجم لا تحل أزمتهم، لكنّها قابلة للاستخدام لتهريب ودائع الفئات المحظية أو النافذة داخل النظامين المالي والسياسي.
مع العلم أن تجربة اللبنانيين منذ تشرين الأوّل/أكتوبر من سنة 2019 تزيد من خشيتهم من هذا السيناريو، بعد أن جرى تهريب جزء كبير من سيولة النظام المصرفي المتبقية لمصلحة هذه الحلقة الصغيرة من المودعين النافذين.
وعلى أي حال، يكفي التذكير هنا أن عمليات تهريب السيولة هذه جرت منذ تشرين الأوّل/أكتوبر بغياب أي قانون ينظم الضوابط على السيولة في النظام المصرفي لمنع الاستنسابيّة في التعامل بين المودعين، حيث قاومت الطبقة السياسيّة طوال الأشهر الماضية أي محاولة لإقرار قانون كهذا.
واليوم، تتحوّل موجودات المصارف في الخارج إلى سيولة جاهزة بنسبة ضئيلة من الودائع، دون أن يكون هناك أي قانون ينظّم استعمال هذه السيولة ليمنع تهريبها مجدداً إلى خارج المصارف اللبنانيّة.
على أي حال، أهم ما في الموضوع هو أن كل هذه الإجراءات، التي تحاول إعطاء المجتمع الدولي الانطباع بوجود مساع للحل من قبل مصرف لبنان، مازالت بعيدة عن التعاطي مع جوهره.
كل هذه الإجراءات، التي تحاول إعطاء المجتمع الدولي الانطباع بوجود مساع للحل من قبل مصرف لبنان، مازالت بعيدة عن التعاطي مع جوهره
باختصار، ثمّة فجوة داخل النظام المالي، أي داخل ميزانيّات المصرف المركزي والمصارف التجاريّة معاً، تجاوز حجمها مستوى الـ63 مليار دولار وفقاً لتقديرات شركة لازارد للاستشارات الماليّة. وهي فجوة ناتجة عن توسّع الفارق بين ما يملكه المصرف المركزي والمصارف التجاريّة من الموجودات بالعملات الصعبة وما يترتّب عليها منها، نتيجة تراكم الخسائر في الميزانيات.
في المقابل، لا يتجاوز سقف عمليّات زيادة الرساميل التي يجري الحديث عنها اليوم حدود الـ4 مليارات دولار، وهي بمعظمها لا تمثّل أي ضخ فعلي للسيولة بالعملة الصعبة داخل النظام المصرفي. أما بيع الفروع الخارجيّة، فلن يساهم حكماً بردم هذا الفارق بين الموجودات والالتزامات بالعملات الصعبة، كون هذه الفروع محتسبة أساساً ضمن الموجودات الخارجيّة.
باختصار، ما هو مطلوب فعلاً هو عمليّة إعادة هيكلة شاملة للقطاع، تحتسب الخسائر بدقّة وتعترف بها، ثم تشرع بتصحيح الميزانيات عبر تنظيفها من الخسائر بشكل صريح. وهذه العمليّة قاومتها المصارف والأطراف النافذة في النظام السياسي طوال الفترة الماضية، خوفاً من المساس برساميل القطاع والمصالح العميقة داخله.